١- من وحي سفر
٢- ما أصدق مواعظ السنين على ألسنة الصالحين ..
٣- في المطار لقيني أبو سعد ولقيته .. عاميٌ لكن حُشيَ حكمة .. من عقلاء رجال أبها البهية كما عرفّها وهو يبتسم ابتسامة قحطانيٍ من الطراز الأول:
حرمٌ حشوه القنا وفِناءٌ … ذو طراز من الجياد العتاق
٤- لا أعرفه ولا يعرفني، لكنّ لحظةً معه كانت تعدل إجازةً علمية…
صدرٌ حوالَيه الجلالُ وملؤه … كرمٌ وخشيةُ مؤمنٍ وذمام
٥- رجلٌ لو أدركه ابن عبد ربه لجعل شيئًا من خبره في عقده، ولو كان في الماضي لزيَّنَ الأبْشيهيّ مستطرفه بشيء من قصصه، ولو صحبه الطنطاوي لكان أحظى عنده من صُلبي في قصة الأعرابي في الحمام والسينما ..
٦- في حضرة أمثاله من المتطامنين أُدرك ضآلة الشهادات الأكاديمية التي غرتنا معاشر حامليها وغرّرنا بها الناس .. لقد قلّبت الأمور:
ملأى السنابل تنحني بتواضعٍ … والفارغات رؤوسهن شوامخُ
٧- فرحت به وهاتفت نفسي:
هذا فيءٌ بلا إيجاف ركاب ظفرت به يا صاح فاهتبله .. وهذه صحبة الماجد وأكثر أخماس السفر عند الشافعي تجتمع في ركن واحد:
تفريج هم واكتساب معيشة … وعلم وآداب وصحبة ماجدِ
٨- استهواني للحديث مع هذا الماجد شبهه بالوالد الذي فقدته قبل ثلاثة عقود -رحمه الله ونور ضريحه- كأنه يحاكيه في هيئته وخُلقه وعصاميته .. فقلت: أشمُ عُرْفه:
لعلي أفي تلك الأبوة حقها … وإن كان لا يوفى بكيل ولا وزن
٩- كان هو أيضًا مُتيم بوالده الذي نعاه قبل خمسة وعشرين عامًا .. كأن الشجـا يبعث الشجا .. لكن استرسلت معه فإن حديث الرجل عن والده شيء من البر، خاصة إذا وشّاه بالدعاء .. كأنه يصف تمثالًا من المكارم والحكم في ذهني عن أبي وهو يتحدث عن أبيه .. حديث الرجل عن أبيه ودعاؤه له يدل على:
أثر ذاك، وبر ذا.
١٠- استطاع في البُرْهَةُ القصيرة التي عشتها معه أن ينثر وعظًا، وُطُرَفا، وحكمة .. يبكيك تارة، ويضحكك أخرى، ويدهشك بالثالثة .. سأشرككم في شيء من مواعظه القولية والفعلية ما دمنا ننتظر الطائرة ..
١١- لو ابتعت تذكرة السفر للقائه والأخذ عن حكمة سنيه، ونشر هذا الثريد لكان مُستحَقًا؛ فكيف وقد ساقه الله إلي بلا سابق عهد ووعد:
صدفةٌ .. ما أجْملَ الدُّنيا بِها … أجْملُ الأشياءِ تأتي بالصُّدَفْ
١٢- أعني المصادفة التي تكون في حق المخلوق، وأما الخالق فعلمه محيط، وقَدَرهُ سابق في كتاب مرقوم .. خرج أنسٌ -رضي الله عنه – يسعى ببشارة للنبي ﷺ، قال: فصادفته وفِي يده ميسمٌ – يسم به إبل الصدقة – قال: فلما رآني قال: لعل أم سليم ولدت؟ قلت: نعم ..الحديث.
١٣- نعود لأبي سعد:
ما الذي أخرجك في هذه الساعة أبا سعد؟
لم يعد ركوب الطائرات لمثلك؟
أنت طارفٌ بين هذا الموج في المطار؟
غريب بين فتيانٍ وفتيات اختلط حابلهم بنابلهم .. تُلقم الواحدة فاها رقائق البطاطس وهي تسعى .. ويقهقه كل واحد وحده مما توحي به سماعة تقلدها في رقبته وسد بها بثق أذنه!!
١٤- أبا سعد مالك؟ أيممتَ الرياض تجدد فتوتك بشم الخزامى وتشهد مواسم الترفيه؟ أجئت تسقي تجاعيد وجهك من مياه العارض؟ أم أتيت على أنغام المطربات تطرق أوتار قلبك لعل الشباب أن يعود فتخبره أفعال المشيب؟
١٥- تحامل أبو سعد على الثمانين، وتوكأ على عصاه متنهدًا، والتفت يقول:
هذه أختي – أشار إلى امرأة على عربية المرضى- وأنا شيخ كبير، صحبتها إلى الرياض قبل يومين .. تجَرّعت جرعةً من الكيماوي في التخصصي وها نحن آيبون ..
١٦- هذه عادتهم، في كل هلالٍ مرة أو مرتين، ثم يعودان القهقرى بالألم والتعب، يهيئان حجوزات الجرعة القادمة .. سيبقون هكذا إلى أن يكرمهم الله على يد مثل هذا الكريم @tfrabiah أن يرفع عنهم وعن أمثالهم هذه المعاناة …
١٧- لملمت نَفَسي واستجمعت ريقي وسابقني بإيمانه الحمدَ والاسترجاع .. كانت بنت أخته معهما .. حييتهما من وراء حجاب، وأشرت بالسلام مصبرًا ومواسيًا .. الكبيرة أعياها حالها، والبنت منعها الحياء أن ترد الإشارة بمثلها أو التحية بأحسن منها .. لم تكن نفسها رخيصة عندها حتى إلى هذا القدر المشروع ..
١٨- تذكرتها بعدُ ونحن نأخذ طريقنا في سردابٍ يصلنا بالطائرة وخلفي فتاة لا متجالة، وعرفت من حديثها مع أحد الشباب أنها متبرجة .. لقد أرخصت نفسها حتى سامها هذا المفلس .. أين هذا الابتذال من حجاب الهيبة الذي تجللت به تلك .. لقد عاشت هذه حريةً زُينت لها، لكن يبعدُ لمثلها أن تدرجَ عش الأمومة ..
١٩- عطفت نفسي أتأمل أبا سعد:
هذا العناء الذي هو فيه لم يكن قادرًا أن يصنع حائلًا بينه وبين الفأل والثقة بالله تعالى .. ابتسامته كانت أوسع من الألم ووعثاء السفر ..
٢٠- لقد أسمعني عن نفسه كلامًا جليلًا كنا نقرأه في كُتب التوحيد عن الصديقين، لكنه أشخصه لي .. يقول:
معي من لا يخيبني ..
أنا مجربٌ ربي من قديم.. ما أصدق معه إلا وصدق معي ..
ففي أيِّ شيءٍ تذهب النّفس حسرة … وقد قسّمَ الرَّحمن رزق الخلائقِ
٢١- لازال يحتفظ بذكريات هذا الصدق وهو يحدث عن رأس ماله:
بقرة كادت تموت في ولادها .. تعسرت به، فسابق يجره إليه، لكنه سبقه مرتدًا إلى بطنها .. إذا وقع هذا يندر أن تسلم البقرة .. أغلق عليهما باب المراح، وهو يقول:
يارب ما تحفظه لايفوت ..
ويمم المسجد وعاد ليرى لطف الله فيها وابنها يمص اللِّبأ.
٢٢- آمنتُ باللهِ الذي دانت له … كُلُّ الدُّنا، وبَسَطتُ كفَّ رجائي
لو لم يَكُن قلبي يُشِعُّ بنورِهِ … لَكَرِهتُ في هذي الحياةِ بقائي
٢٣- قال لي في إحدى التفاتاته: يا صالح أنت تدف الدنيا ولاّ تقودها؟
قلت: ليه؟
قال: إن كنت تقودها فهي تحكمك ويأتي يوم تطاك ويأخذ خطامها غيرك، وإن كنت تدفها فابشر إنك سالم منها.
اذا الدنيا تأملها حكيمٌ … تبين أن معناها عبورُ
فبينا أنت في ظِلِ الأماني … بأسعدِ حالةٍ إِذا أنتَ بورُ
٢٤- تعرف سورة الرحمن؟
قلت: إيه ..
قال: فيها أربع جنان ثنتين فوق وثنتين تحت، ترى مهر هذي ومهر هذي كله بيدك .. فاحرص على اللي فوق، والله إني أخشى أعيش بحسرتي مع اللي تحت ..
إِذا كانَ ما تَنويهِ فِعلاً مُضارِعًا … مَضى قَبلَ أَن تُلقى عَلَيهِ الجَوازِمُ
٢٥- ترى مزارعنا وقصورنا وزوجاتنا قدامنا في الآخرة خل عنك الأم اللي تأكل أولادها …. تعرف الأم اللي تأكل أولادها؟
قلت: لا
قال: آهي الدنيا ..
٢٦- قلت ممازحًا: كم معك من النسوان؟ قال: ثنتين صالحات .. ترى المرأة الصالحة زينة الحياة؛ وأنا أعلمك:
رأس مالك: الرجال، يعني الأولاد.
ومسكنك: المرأة الصالحة.
وميرك: الذرة والبر.
إذا جمعها الله لك فأنت في خير.
المير: القوت، ومنه في يوسف: {ونمير أهلنا}.
٢٧- قلت: تباركت بالحريم أجل؟
قال: بل تباركت بطاعة والدي ..
قلت: كيف؟
قال: هميت زمان أسافر من الديرة فقال: يا ولدي لا تتركني وتترك خواتك .. إذا غبت تكن معهم، وإذا غبت أنا تكن معهم .. فطعته .. والله إني أعيش بركة طاعتي له إلى اليوم:
أبوايا لو جادوا علينا بالرضا … يكن الطريق إلى الجنان ممهدا
٢٨- سأقوم انظر لوحة سير الرحلات .. رحلتي متأخرة عن رحلتهم ووددت لو طال بنا الحديث لكن أشفق أن تتأخر على هذه المسكينة أو يأخذنا الحديث عنها .. أطلت الوقوف أتأمل اللوحة، لم أكن أدري أني أقوم إلى فُجَاءَة الحرقة ..
٢٩- رجعت فإذا خدمات المطار أخذتهم إلى الطائرة قبل المسافرين .. لم أكن أعلم أن تلك اللحظة ستكون آخر العهد بأبي سعد .. وقفت على كرسيه ليس به داع ولا مجيب ..رغبت أن يحدثني عنه، توسلت بشيء يشبه الدمع، استحييت من نظرات الناس:
نَسرِقُ الدّمع في الجُيوبِ حَياءً .. وبنا ما بنا من الإشفَاقِ
٣٠- رجعت إلى مصلانا وأطلالنا:
وقفتُ فيها أصيلًا كي أُسائِلها .. عيَّتْ جوابًا، وما بالرَّبعِ مِن أحد
٣١- أقلعت طائرة أبي سعد -حفظه الله وغفر له ولصحبه وأذهب بأس أخته- لم يخلف وراءه غير هذا الدرس المكثف في العقيدة والحياة، ورائحة طيبه الذي ختم به على كفي، وآثر أن يجعله شاهدًا على طيب قلبه ..
الطيّبون من الريحان منبتهم .. ومنبت التيم في الكراث والثوم
٣٢- بقيت أدور حيث أجد مساحة فضاء لا زحام فيها .. ألوم نفسي كيف فات حتى أخذ رقم جواله لعله يصلنا إذ تقطعت بنا الأسباب .. هكذا جرى القدر، ولكني أرجو بحسن الظن بالله أن نتذاكر هذا اللقاء في المكان الذي يسعى إليه وشحذ همتي لبلوغه يوم يرث المؤمنون أرض الجنة:
أرض سماء سواها دونها شرفا … فلا سماء ولا أرض تحاكيها
٣٣- نادى منادي طائرتنا .. كانت ضخمة عارمة .. لقد زادها صُنّاعُها بسطة في الشكل والجسم، وما زال الركاب يتقاطرون من أبوابها حتى أطّت بنحو خمس مئة .. بدأ قائدها يلوي عنقها ويستنهضها ويتحايل عليها لعلها تقوم .. ولا ندري ما ﷲ صانع بنا ..
٣٤- لكن سكّن روعنا أنّ خُدّامها استنطقوها فنطقت بدعاء السفر .. أطرقت له الرؤوس، وخشعت له القلوب، وهي تذكرنا قول الخالق سبحانه:
{لِتَسْتَوُوا عَلَى ظُهُورِهِ ثُمَّ تَذْكُرُوا نِعْمَةَ رَبِّكُمْ إِذَا اسْتَوَيْتُمْ عَلَيْهِ وَتَقُولُوا سُبْحَانَ الَّذِي سَخَّرَ لَنَا هَذَا وَمَا كُنَّا لَهُ مُقْرِنِينَ} [الزخرف: 13].
٣٥- اختالت أمام أخواتها القابعات حول مدرجها .. ثم سارت تشق غمرات الفضاء بجناحين يفضلان عن جسدها، لو أدرك قيادها المتنبي لقال فيها خيرًا مما قال في فرسه يوم يقول:
له فضلة عن جسمه في اهابه .. تجيء على صدر رحيب وتذهب
شققت به الظلماء أدنى عنانه .. فيطغى وأرخيه مرارا فيلعب
٣٦- تصعدت بنا في الفضاء، وانقطع الاتصال بمن في الأرض، ولم يبق إلا الاتصال بمن في السماء .. دخلت بنا في ظلمة السحاب، ويوشك أن تتغشانا ظلمة الليل .. ويح القلوب الكافرة كيف لا تؤمن هذه الساعة ..
٣٧- هذه جبال البرد التي حدثنا عنها القرآن:
{وَيُنَزِّلُ مِنَ السَّمَاءِ مِن جِبَالٍ فِيهَا مِن بَرَدٍ فَيُصِيبُ بِهِ مَن يَشَاءُ وَيَصْرِفُهُ عَن مَّن يَشَاءُ ۖ يَكَادُ سَنَا بَرْقِهِ يَذْهَبُ بِالْأَبْصَارِ} [النور: 43].
٣٨- ذكرتنا الطائرة قول الله تعالى: {هُوَ الَّذِي يُسَيِّرُكُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ ۖ } [يونس: 22].
وكيف لم يذكر الجو؟ وهو سبحانه يعلم ما سيكون؟
والجواب: أنه سبحانه خاطب القوم بما كانوا يعقلون، أو أن سير الطائرة لا يخلو أن يكون فوق بر أو بحر ..
٣٩- ولقد جاء الامتنان العام بكل مركوب كان وسيكون في قوله سبحانه في النحل:
{وَالْخَيْلَ وَالْبِغَالَ وَالْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوهَا وَزِينَةً ۚ وَيَخْلُقُ مَا لَا تَعْلَمُونَ} [النحل: 8].
ولقد كانت الطائرة مما لا يعلمون، وسيكون ما لا نعلم .. والله يعلم وأنتم لا تعلمون ..
٤٠- صارت تتنقل بك من آية إلى آية .. ارتفاعنا عن الأرض صغّرها في عيوننا .. هذه الدنيا لو تسامى الإنسان إلى العالم العلوي لأدرك حقارتها، ما أصغر الكبار وأنت في العلو، وددت أن مختالًا هناك يعلم أنه لا يُرى من الطائرة، وأنه مُحقّر حتى عند من يرى خلقه من على عرشه.
٤١- الطائرة مكان مناسب ترى منه الظواهر الكونية بعيدًا عن ضوضاء الأرض البصرية ..
تميز بين الفجر الصادق والكاذب .. ترى وجوب الشمس تسقط ساجدة لربها .. ترى الشفق بكل وضوح، تتابعه حتى يغرب.
٤٢- هنا اجتمع علمٌ وإيمان .. غربت الشمس .. تزاحم الركاب على مصلى في آخر الطائرة للصلاة ..
عظيم أن تذكر الله وتسجد له في مكان من هذا الكون لم يصل إليه أحد من السابقين إلا أن تكون الملائكة والروح تعرج إليه في حال من العبودية، أو رسولنا ﷺ في الإسراء والمعراج .. الله أعلم .. هذه هواجيس راكب ..
٤٣- وأما قوله ﷺ :“جعلت لي الأرض مسجدًا وطهورا” فلا يمنع صحة الصلاة في فضاء الأرض؛ فإنه تابع لها، والفقهاء يقولون: الفضاء يحاكي القرار ويأخذ حكمه، ومنه فضاء عرفة والمطاف والمسعى .. من وقف فيه أو طاف أو سعى أجزأه ..
٤٤- أما أنا فآثرت التنفل فقط على مقعدي كما كان ﷺ يتنفل ويوتر على راحلته حيث كان وجهه، وأما الفريضة إذا كنت ستدرك الوقت في مهبطك فالتأخير أولى؛ لتتحقق من اتجاه القبلة .. وأما إذا كان الوقت سيفوت ولا تجمع الصلاة مع التي بعدها فمراعاة الوقت أولى وتصلى في الطائرة ..
٤٥- تضيّفت الطائرة للهبوط .. الخواطر تزاحمت .. الطائرة تزيد الشقة بيني وبين أبي سعد ..
القائد ينبه مريدي النسك بمحاذاة الميقات .. أظن القادم من الرياض يحاذي ذات عرق ..
أين أنت يا أبا جهل .. هذه سنن محمد رسول الله ﷺ تتلى بين السماء والأرض .. وصدق الله: {ورفعنا لك ذكرك}.
٤٦- بلغ الحديث الأربعين وزاد عن حد الأشد والاستواء فليُرفع القلم .. رجعت إلى ظل أمي .. أعطيها بعض أخبار أبي سعد .. الأرواح جنود مجندة .. تأنس بذكر الصالحين وتطرب للحديث عن الوالد رحمه الله .. آيبون تائبون عائدون لربنا جامدون … السفر والدنيا كلها لا تعدل جلسة تحت ظل قدمك يا أمي .. والسلام.