طلاب العلم يكثرون السؤال عن تراجم من قد يأخذون عنه علما ويتشوفون لها، ولربما طربوا لتأريخ الشاخص أكثر بسبب تأثير الخلطة وابتغاء تقليده، وإجابتهم قد يكون فيها شيء من المصلحة، والترجمة الذاتية لأمثال الراقم قد تُشبعَ رغبة الفضولي، والمُلِّح في السؤال، ومستسمن الورِم، وقد تكون مرقاة للمقعدين، وإلا فإن من رام معارج القبول وسلم الوصول غنيٌ عنها بسير الأعلام التي بين يديه، ومقامات الأحرار التي لا تخطئ عينيه:
لا تعرضن بذكرنا في ذكرهم … ليس الصحيح إذا مشى كالمقعد
أقول هذا – ولا كفران لله – لا لألقي معاذيري فحسب ولكن هي إعذار إلى من أملق وجاء يسعى ليشفي صداه، واتخذ البحور وراءه ظهريا وأمَّ القناة، وقد قدمت إليه بالاحتراز، فمن اشرأب لها من أهل الكُتَّاب ندافع استطلاعهم وسؤالهم بمثل هذا؛ ونتألفهم لأنهم ذخائر المواريث، يتصل بهم السند، ونرجو أن يكون فيهم حارث يجد أرضا نقية يحرثها، فإن لم تكن فأجادب يرد عليها أمة من الناس يسقون، وحسبنا الله ونعم الوكيل.
ومن كتب في سيرة ذاته قد يترخص فيها من جهة أنها تعريف بنكرة، وهو أولى بالتعريف من المعارف، وقد عرف الرب سبحانه في علوه، وتعالى في عظمته، وتقدسه في ذاته وصفاته؛ عرّف بنفسه وهو أعرف المعارف فقال:
[قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ (1) اللَّهُ الصَّمَدُ (2) لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ (3) وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ (4)].
وقال في خواتيم الحشر:
[هُوَ اللَّهُ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ (22) هُوَ اللَّهُ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْمَلِكُ الْقُدُّوسُ السَّلَامُ الْمُؤْمِنُ الْمُهَيْمِنُ الْعَزِيزُ الْجَبَّارُ الْمُتَكَبِّرُ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ (23) هُوَ اللَّهُ الْخَالِقُ الْبَارِئُ الْمُصَوِّرُ لَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى يُسَبِّحُ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (24)].
وعرّف برسوله صلوات الله وسلامه عليه وأصحابه فقال:
[مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ].
وعرّف رسول الله صلوات ربي وسلامه عليه بنفسه فقال كما في الصحيحين: «أَنَا النَّبِيُّ لاَ كَذِبْ، أَنَا ابْنُ عَبْدِ المُطَّلِبْ».
قال الحافظ: عند شرح حديث جبير بن مطعم في ذكر قفول النبي ﷺ من حنين وكيف زحمه الناس ليعطيهم بعض المال حتى خطفت السمرة رداءه فقال حينها: «أعطوني ردائي، لو كان لي عدد هذه العضاه نعمًا لقسمته بينكم، ثم لا تجدوني بخيلًا، ولا كذوبًا، ولا جبانًا».
قال الحافظ وغيره من الشراح: وفيه جواز وصف المرء نفسه بالخصال الحميدة عند الحاجة؛ كخوف ظن أهل الجهل به خلاف ذلك ، ولا يكون ذلك من الفخر المذموم.
وقد يستأنس من يهجم على هذا بقول ربيعة فيما علقه البخاري عنه في باب رفع العلم وظهور الجهل: «لاَ يَنْبَغِي لِأَحَدٍ عِنْدَهُ شَيْءٌ مِنَ العِلْمِ أَنْ يُضَيِّعَ نَفْسَهُ»، فقوله: “شيء من العلم” يصلح لمن قلت بضاعته واحتيج له في بعض الأمر، وقد ذكر الحافظ في الفتح وجوها في مراد ربيعة منها: أن يشهر العالم نفسه ويتصدى للأخذ عنه لئلا يضيع علمه.
ولولا وعد ووعيد لما ترخص خالي الوفاض أن ينبس في القول الثقيل ببنت شفة، فأما الوعد ففي: «من دل على هدى»، وأما الوعيد: «ففي لجام النار»، كيف وقد نزل أمر من الأعلى إلى الأدنى بـ«بلغوا عني ولو آية»، وما حيلة طلاب العلم في زمان احتاج فيه الفقراء لأهل الخصاصة، ولئن نقلت عيون الأخبار وحلية الأولياء عن التابعي الجليل إبراهيم بن يزيد النخعي قوله: لقد تكلمت، ولو وجدت بدا ما تكلمت، وإن زمانا تكلمت فيه لزمان سوء ثم أنشد:
خلت الديار فسدت غير مسود … ومن البلاء تفردي بالسودد
فإنه لا يأتي زمان إلا والذي بعده شر منه، وإن أقصى منانا أدنى فعالهم، ولولا أن يكون ذم الرجل نفسه في العلانية مدحا لها لزيد منه.
إذا المرء لم يمدحه حسن فعاله … فمادحه يهذي وإن كان مفصحا
ثم إن من كان على شريعة من الأمر فقام بفريضة البلاغ زاد ضبطه، وتبارك علمه على حد قول الإلبيري:
وكنز لا تخاف عليه لصا … خفيف الحمل يوجد حيث كنتا
ويزيد بكثرة الإنفاق منه … ويقل إن به كفا شددتا
ومن اللطائف في الباب أن الذهبي رحمه الله لم يترجم لنفسه في سير أعلام النبلاء مع أنه ذكر فيها كثيراً من أقرانه ومعاصريه، لكنه ترجم لنفسه ترجمةً مختصرة فيها تواضع عظيم وعِظَة لأمثالنا في كتابه «المعجم المختص بالمحدثين» 1/97 فقال: “الذهبي، المصنف ، محمد بن أحمد بن عثمان بن قايماز ابن الشيخ عبد الله التركماني الفارقي ثم الدمشقي الشافعي المقرئ المحدث، مُخَرِّج هذا المعجم. وُلِد سنة ثلاث وسبعين وستمائة … وجمعَ تواليفَ، يُقالُ: مفيدة، والجماعة (يتفضلون!) ويثنون عليه، وهو أخبر بنفسه، وبنقصه في العلم والعمل، والله المستعان ولا قوة إلا به، وإذا سلِم لي إيماني فيا فوزي”.
والسيوطي رحمه الله ترجم لنفسه في كتابه حُسن المحاضرة، عند الكلام على من كان بمصر من الأئمة المجتهدين. قال: “وإنما ذكرت ترجمتي في هذا الكتاب اقتداء بالمحدثين قبلي، فقلَّ أن ألفّ أحد منهم تاريخاً إلاّ ذكر ترجمته فيه … “.
ويذكر هذا هنا لا للمشاكلة- معاذ الله- ورحم الله عبدًا عرف قدر نفسه، ولعمر الله أن مرتبة صغار تلاميذهم تطال فوق منتهى بسطتنا؛ نقولها صدقا؛ فإن:
من لم يقف عند انتهاء قدره … تقاصرت عنه فسيحات الخطا
لكن ذكرتها هنا لبيان مندوحة الجواز، وقد عُدّ كثير ممن ترجموا لأنفسهم من أهل العلم والأدب وغيرهم، ذكرهم العلامة بكر أبو زيد في التراجم الذاتية.
ومع هذا فإني لا استسيغ كتابة حرف في هذا؛ واعتذر للمحب، فإن الصحائف تنشر يوم القيامة ونسأل الله دوام الستر، وما كان من علم يراد به وجه الله فسينفذ، وإلم يكن فلا خير في حروف تنفخ في رماد، وكما نقل عن الشيخ محمد السبيل رحمه الله حين طلب منه الحديث عن نفسه فقال: ما كان بيني وبين الله ما أنا بناشره، وما كان غير ذلك فإنكم لا تريدونه.
على أني أسأل الله هنا لمن أخذ بيدي إلى العلم بعد والدي من مشايخنا الذين جلست بين أيديهم أوأخذت عن كتبهم وتسجيلاتهم أن ينور أضرحتهم، ويعظم أجورهم، ويجعلهم في منازل النبيين يوم القيامة، وأخص منهم أئمة الزمان ابن باز والألباني وابن عثيمين وابن جبرين، وأما شيخنا محمد بن محمد المختار الشنقيطي فإن فضله علي في العلم والعمل لا يحيط به إلا الله، ولا يقدر على ثوابه إلا هو، وإني أتوسل إلى الله في كل يوم وليلة أن يتولى إكرامه عني وعن سائر طلابه على حسن تعليمه، وصبره على ذلك، وأخذه بحجزنا بحسن وعظه عن فتن الشهوات وبكثير علمه وأصيله عن فتن الشبهات، وأسأله تعالى أن يطيل عمره ويديم عافيته وأن يمتع به طلابه ومحبيه…ما رأيت بعد ابن باز معرضا عن الدنيا غنيا عن الخلق وتتزاحم القلوب على حبه والأقدام عند درسه مثله، فعليك سلام الله شيخنا:
رشّ السماءُ طريقكم …. أيحبكم حتى المطر
وبين هؤلاء الأعلام شيوخ وأدباء ومفكرون، أفدت من علومهم، لا تعلمونهم الله يعلمهم، وهو الذي يتولى ثوابهم، ونسأل الله أن يعيننا على الوفاء لهم بالدعاء والذكر الحسن، وأن ينزلنا منزلة الأحرار على ما قال الشافعي رحمه الله: الحر من راعى وداد لحظة وانتمى لمن أفاده لفظة.
كما أسأل الله تعالى دوام ستره، وعاجل مغفرته، وأن يجعل لهذا العلم قبولا، وأعوذ به سبحانه أن يكون بابا إلى النار.