نزاعةٌ للهوى “وصايا لطلاب العلم”.

عدد الزوار: 598

١- الشباب الصالح المصلح بركة وزينة في القبيلة والحي ومكان العمل والمساجد، لكنهم يحتاجون إلى بصيرة وتبصر في بعض المسائل، حتى تعظم مصالحهم ويزيد نفعهم، وحري بهم أن يفيدوا من تجارب غيرهم حتى تكون دعوتهم تمامًا على الذي أحسن.

٢- ولهذا أود أن سوق سلسلة من وحي الشريعة والتجربة لإخواني وأبنائي الشباب الذي يسعون إلى أن يكونوا مصلحين ومؤثرين ونافعين في قبائلهم أو أسرهم أو أحيائهم أو مكان العمل أو جماعة المسجد.

٣- أولًا: أصل الأصول: لن يكون منك نفع، ولا لدعوتك بركة وتأثير وقبول ومحبة من قبيلتك وأسرتك وحيك وجماعتك ما لم تجمع خصلتين عظيمتين:

الإخلاص لله
وحسن الخلق

٤- والخلل فيهما في حالتين:
إما أن يكون الإنسان مشركًا في نيته لا يريد وجه الله وحده وإنما يريد الوجاهة وأن يقال فلان.
أو يكون مخلصًا لكنه فظٌ غليظ القلب.

والنتيجة: سيكون مكروهًا في الأرض، وما يدعو إليه ممجوجًا مردودًا، وينفض الناس من حوله.

٥- والله تعالى قال في الأمر الأول:
{وَلَوْ أَشْرَكُوا لَحَبِطَ عَنْهُم مَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [الأنعام: 88].

وقال في الثاني:
{فَبِمَا رَحْمَةٍ مِّنَ اللَّهِ لِنتَ لَهُمْ ۖ وَلَوْ كُنتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ} [آل عمران: 159].

٦- فإذا جمعهما الداعية الذي يريد الإصلاح؛ فكان مخلصًا لله وحسَنَ الخلق كان بركة على قبيلته وأسرته وحيه ومكان عمله وجماعة مسجده، لكن هذا وحده أيضًا لا يكفي إلا بأمرين عظيمين آخرين وإلا كانت النتائج مخيبة، والمفاسد طاغية على المصالح، وهذان الأمران هما:

العلم
والحكمة

٧- فصارت أركان النجاح أربعة:

الإخلاص
حسن الخلق
العلم
الحكمة.

٨- وثمة أمر خامس لو حازه الداعية والمصلح صارت دعوته بلسمًا على قبيلته وعشيرته وحيه وزملائه وجماعة مسجده، وهو أن يكون خادمًا نافعًا لهم بماله وجاهه ووقته وبدنه:

سأبذلُ مالي كلَّما جاء طالبٌ … وأجعلُه وقفًا على القرضِ والفرضِ
فإمَّا كريمًا صنتُ بالجُودِ عرضَه … وإما لئيمًا صنتُ عن لؤمِه عرضي

٩- ولهذا استشرفت أمُنَا خديجة -رضي الله عنها- نجاح دعوة النبي ﷺ من أول يوم في دعوته؛ لأنه قد تقلد هذه الصفات من قبل، فقالت:
“كلا والله ما يخزيك الله أبدًا، إنك لتصل الرحم، وتحمل الكل، وتكسب المعدوم، وتقري الضيف، وتعين على نوائب الحق” متفق عليه.

١٠- ولو تأملت أي تعثر في طريق الشباب والدعاة تجده لعلة من هذه العلل الأربع:

٠ عدم الإخلاص لله.
٠ سوء الخلق مع الناس.
٠ التصرف بجهل مع القضايا.
٠ الحماقة وعدم أخذ الأمور بحكمة في التطبيق.

ولو اجتمعت الأربع في شخص فهو الطاعون والعياذ بالله الذي يورد القبر.

١١- وإذا أُتي من واحد من هذه العلل خسر نفسه ودعوته، ونضرب لكل واحد منها مثالًا.

١٢- قد يكون الداعية:
حسن الخلق
ويتكلم بعلم
وحكمة
ويحب نشر الخير.

ومع كل هذا يفشل، والسبب أن له نية خفية أحبطت جهده، وهي أنه يهوى العلو، ويحب أن يقال فلان كذا وكذا .. فكونه ينوي نشر الخير ونصرة الدين لا يفيده شيئًا مع هذه النية الشركية الخفية الخبيثة.

١٣- المثال الثاني:
قد يكون:
مخلصا لا يريد إلا وجه الله
ويتكلم بعلم ودليل
وحكيمًا ليس فيه طيش.

ومع هذا كله يفشل في دعوته؛ والسبب يعود إلى سوء في خلقه، كأن يكون متجهمًا في مقابلته، عابسًا في وجهه، أو قاسيًا في ألفاظه، فيقرع الناس، ويتهمهم بالجهل والتخلف، أو يتعالى ويتعالم عليهم ..

١٤- هذا أيضًا لن يقبل منه، وستبغضه القلوب، وتنفض من حوله الجموع، فإن العادة جارية أن النفوس السليمة لا تقبل عسلًا في إناء متسخ:

وكُلُّ جراحةٍ فلها دواءٌ … وسوءُ الخلقِ ليسَ له دواءُ

١٥- المثال الثالث: قد يكون:
مخلصًا
حسن الخلق
حكيما

لكنه يتكلم بجهل، ولا يعرف مراتب المسائل، فقد يجعل:
الصغائر كبائر
والمكروه حرامًا
والمندوب فريضة
ويجزم بتأثيم الناس، وتفسيقهم، وربما تبديعهم، ويهلكهم وهو أهلكهم، وهذا أيضًا هدمه أكثر من بنائه.

١٦- المثال الرابع: قد يكون:
مخلصًا
حسن الخلق
ويتكلم بعلم

لكن بلا حكمة، فيخطئ الزمان، أو المكان، أو الحال، أو الأشخاص.
فبعض الحديث يصلح:
في زمان دون زمان
أو مكان دون مكان
أو حال دون حال
أو لقوم دون آخرين

والعلم ليس بنافعٍ أربابه … ما لم يفد نظرًا وحسن تبصّرِ

١٧- وأهم هذه الأركان هو العلم، لأنه يوشك أن يهدي للتي هي أقوم، من الأخلاق والأقوال والأفعال، كما قال تعالى: {إِنَّ هَٰذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ} [الإسراء: 9].

١٨- ولا أعني بالعلم الثقافة الدينية العامة التي عند عامة الشباب فإنها لا تغني شيئًا، وإنما أعني التفقه والتضلع والتأصيل، بالمرور على أبواب الفقه، والجلوس بين يدي العلماء مدة طويلة، ومعرفة مراتب الدين والفقه قبل اقتحام عقبة الدعوة، والتنصب لهذه المهمة الشريفة.

١٩- ولا أعني أيضًا الشهادة الجامعية، فإنها كما هو ملاحظ لا تغني شيئًا لمن أراد الإمامة والتأثير، ولو كانت من كليات الشريعة، ما لم يجالس صاحبها العلماء؛ يهتدي بهديهم، ويأخذ من سمتهم قبل علمهم.

٢٠- والكلام هنا فيمن أراد أن ينصب نفسه للإمامة والدعوة والإصلاح والتغيير، أما تبليغ آحاد المسائل فهذا يكون في حق كل أحد من طلاب العلم والعامة قال ﷺ: “بلغوا عني ولو آية”رواه البخاري.

٢١- قال البخاري رحمه الله: بابٌ: العلم قبل القول والعمل؛ لقول الله تعالى: {فَاعْلَمْ أَنَّهُ لَا إِلَٰهَ إِلَّا اللَّهُ وَاسْتَغْفِرْ} [محمد: 19] فبدأ بالعلم، وإنما العلم بالتعلم .. وقال ابن عباس: كونوا ربانيين: حلماء فقهاء.

٢٢- قال العلماء: يكون العمل مرجوَّ النفع إذ تقدمه العلم، ومتى خلا العمل من النية، ورجاء الثواب عليه، وإخلاص العمل لله تعالى، فليس بعمل، وإنما هو كفعل المجنون الذى رُفِعَ عنه القلم.

٢٣- سيبقى الكلام جافًا ما لم نعرج على التأريخ ونقص عليكم القَصَصَ .. اسمعوا التأريخ ففي التأريخ العبر .. هذه واقعة بيني وبين قبيلتي وسماحة الشيخ ابن باز -رحمه الله- فيها فائدة وفوائد: {فَاقْصُصِ الْقَصَصَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ} [الأعراف: 176].

٢٤- أقُصُّها لأنني رأيت قبل أيام قبيلةً حذت سابلة خاطئة سلكناها قبل خمس وعشرين سنة حتى قال ابن باز -رحمه الله -: ارجعوا وراءكم فالتمسوا نورًا .. فرجعنا .. كنا نمشي بلا علم.

٢٥- والعبرة إنما هي للمعتبر، {فَاعْتَبِرُوا يَا أُولِي الْأَبْصَارِ} [الحشر: 2]، وهذه الآية في بني النضير وما حل بهم صارت حجة عند الفقهاء في اعتبار القياس، وإلحاق النظير بالنظير، وإذا لم يعتبر المتأخرون من المتقدمين وأبطلوا القياس وقعوا في التفريق بين المتماثلات، وجمعوا بين المختلفات، وتعروا عن لبوسهم ثم نكسوا كما قيل على رؤوسهم.

٢٦- والعاقل والمؤمن كما قال ﷺ: “لا يلدغ من جحر واحد مرتين”. متفق عليه، وكذلك المؤمن والفطن لا يلدغ من جحر لدغ منه أخوه قبله وإلا كان مغفلًا ومستحقًا للوم اللائم وتقريعه.

٢٧- والغالب أن هذا -الذي لا يفيد ممن سبقه- لا يكون إلا متكبرًا معتدًا بنفسه ورأيه، ولسان حاله كلسان الأول القائل: {قَالَ إِنَّمَآ أُوتِيتُهُۥ عَلَىٰ عِلْمٍ عِندِىٓ ۚ أَوَلَمْ يَعْلَمْ أَنَّ ٱللَّهَ قَدْ أَهْلَكَ مِن قَبْلِهِۦ مِنَ ٱلْقُرُونِ مَنْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُ قُوَّةً وَأَكْثَرُ جَمْعًا} [القصص: 78].

٢٨- نعود للواقعة، هذه الواقعة وقعت قبل خمس وعشرين سنة، تبين خطر السعي في الإصلاح بجهل وبلا حكمة، وأظن من أراد أن يقوم المقام الذي قمناه لو اطلع وغيره على تجربتنا لتبدلت أفكارهم كما لم يؤمنوا بها أول مرة، فهذه نصيحة لهم ولغيرهم.

٢٩- رأى بعض إخواننا في القبيلة أن في أمور الزواج مفسدتين رغبنا تغييرهما:

زيادة التكاليف
ومقارفة بعض المنكرات في الأفراح.

٣٠- حين اتضح لنا الهدفان:
تخفيف تكاليف الزواج
والقضاء على منكرات الأفراح

عقدنا عزم الإصلاح والتغيير… لقد كان الهدف ساميًا، لكن كيف كانت الوسيلة؟ وكيف ظهرت النتيجة؟

٣١- اجتمعنا بشيخ القبيلة وأعيانها، وعقدنا حلفًا ووثيقة في ظننا أنها سترفع المفسدتين السابقتين…! هذه صورة لبعض بنودها:

٣٢- دعونا نأتي نحاكم هذه الواقعة ونتلمس أركان النجاح السابقة أين هي منها؟
الإخلاص
حسن الخلق
العلم
الحكمة.

٣٣- لا أستطيع أن أجزم بشيء حزناه منها إلا حسن الخلق فقد كان والحمد لله، لكن بقية الأربعة لا أدري أين هي، بل اليوم عرفنا أنها كانت في الوادي.

٣٤- فنوايانا لم تكن خالصة، كانت نفوسنا تميل للاستعلاء وحب الظهور.
. والنظام الذي وضعناه كان ينقصه العلم، وإن لبس لباسه في الظاهر.
. وعند التطبيق كانت الحكمة أيضًا بالجانب الغربي وإن كنا تقمصنا هيكل أفلاطون.

٣٥- عرضت وبعض إخواني الشباب هذه الوثيقة على أحد الدعاة الذين يشار لهم بالسبابة اليوم .. لما قرأها أسرف في تزكيتها، لقد قال كلمة عظيمة أخرجها بلسان العاطفة والمجاملة لا بلسان العلم، لقد كان يعوزه أيضًا مثلنا، لقد قال:
كأنها من صياغة هيئة كبار العلماء.

٣٦- لقد فعلت هذه الكلمة فعلتها فينا، وألبستنا ثوب الغرور والزور .. هكذا كان قدر الله:

وما أعجبتني قط دعوى عريضة … ولو قام في تصديقها ألف شاهدِ

٣٧- لكن جاء الذي يحطم هذا الغرور:

حملتُ ومعي بعض إخواني هذه الوثيقة وقصدنا بها شيخنا وشيخ الإسلام والمسلمين: ابن باز -رحمه الله- لينظر ماذا يرى.

٣٨- سأخبركم بعدُ ما الذي جعلنا نذهب إلى هذا المذهب ونبحث عن رأي الشيخ ابن باز -رحمه الله- مع هذا الغرور، لا شك أنه لطف الله، لكن الذي حملنا عليه شيء هوى، وتفاجأنا أن الشيخ بعلمه وبصيرته علم بوقوعه قبل أن نأتيه وقبل أن يقع.

٣٩- دخلنا على سماحة الشيخ مجلسه في الطائف، وتحينت انفضاض السائلين، وسكون الهاتف الذي لا يكاد يسكن من المتصلين ثم دنوت من الشيخ -رحمه الله-.

٤٠- وبعد التحيات، استأذنته فقلت: شيخنا: هذه وثيقة في تنظيم أمور الزواج أود أن أقرأها على سماحتكم، فماذا تأمرون؟

قال: سَمِّ.

حَبْرٌ إذا برقت أَسِرَّةُ وَجهه … جلت الدُّجى بضيائها المتوقِّد

٤١- لم أكد أكمل الصفحة الأول حتى قال: حسبك يكفي، لا أرى هذا، اتركوها اتركوها!!!!!

٤٢- كان هذا القول من سماحته صادمًا، أنا أقرأ صحيفة كأنما صاغتها هيئة كبار العلماء! هكذا كانت تذكرني نفسي بكلمة سمعناه أول مرة .. لكن سرعان ما قالت لي: هذا رئيس هيئة كبار العلماء هنا سمعها وكرهها، بل كرهها قبل أن يستجمع ما فيها!!!!

٤٣- لكن ما طابت نفسي ..
خرجنا لصلاة العشاء.. صحبت الشيخ في طريقه للمسجد، قلت: يا سماحة الشيخ استأذنك أكملها .. كنت أود أن يسمع الحزم والعزم في بعض بنودها لعلها تطربه فيزكيها، هناك: منع للموسيقى وغرامات مالية تعزيرية وفيها وفيها.

٤٤- لم يدع الشيخ مجالًا للإكمال لقد كرر علي كلمته الأولى: اتركوها اتركوها .. كان هذا الإصرار مني ضربًا من الغفلة، الشيخ تكلم بعلم وحكمة .. يكفي .. لكن هكذا كان.

٤٥- كأن الشيخ -رحمه الله- أدرك الجهل الذي جئنا به، فقال:
اتركوها يا ولدي، اتركوا الناس، لا تحملوهم على الكذب .. لا تفرقوهم.

ومن جهلت نفسه قدْرَه … رأى غيره منه ما لا يرى

٤٦- هذه الكلمة الأخيرة هي التي أيقظتنا! من أخبره أن هذه الوثيقة فرقتنا فعلًا؟

٤٧- الآن أخبركم لِمَ قصدنا الشيخ:
ما إن وضعت الوثيقة وبدأ التطبيق حتى نفرت منها نفوس عامة الناس، أخبرناهم بتزكية ذاك الداعية فكانوا أبصر به منا، فقلنا لا سبيل إلى الغلبة والعلو الذي في نفوسنا إلا أن يختم عليها الشيخ ابن باز بخاتم التزكية .. هذا الذي حَمَل مطينا إلى الشيخ.

٤٨- تذكروا الآن أركان النجاح الأربعة كيف تساقطت منا:
العلم
‏الحكمة
‏الإخلاص

‏لقد:
‏أغرقنا في الجزئيات
‏بالغنا في التشاؤم
‏ضيقنا في الواسعات
‏شططنا في المثاليات
‏وضعنا لأنفسنا سلطانًا ليس لنا.

٤٩- التعزيرات التي أملاها الجهل تُعدُ منكرًا أكبر من المنكرات التي أردنا رفعها .. التعزير وظيفة القضاة، والتعزير بالمال لا يجيزه أكثر الفقهاء حتى للقاضي فضلًا عنا .. أخذ أموال الناس على هذه الصورة كان ثالث الكبائر التي جاءت في تحذيرات خطبة الوداع:

٥٠- “إن دماءكم، وأموالكم، وأعراضكم، بينكم حرام، كحرمة يومكم هذا، في شهركم هذا، في بلدكم هذا، ليبلغ الشاهد الغائب”.

٥١- لم نعرف قدر أنفسنا، ولا أقدار الناس، ولا قدر الشريعة، بل جعلنا سافلة الأمور عاليتها.

٥٢- كان من حسن حظنا أنَّ درسَ سماحة الشيخ بعد العشاء كان في كتاب التوحيد.
‏اجتمعت لنا في مجلسه أركان النجاح:
‏السمت والعلم والحكمة والتوحيد والإخلاص.

‏ليت المدائح تستوفي مناقبه … فما كُليبٌ وأهل الأعصر الأول
‏خذ ما تراه ودع شيئا سمعت به … في طلعة البدر ما تغنيك عن زحل

٥٣- خرجت أُحدث نفسي بعدها عن بركة مجلس واحد جلسناه تلك الليلة مع الشيخ -رحمه الله- كيف لو كانت الملازمة؟ لكن كانت الهجرة إلى أم القرى.

٥٤- إن أعظم حُلوان يمكن أن تقدمه لشاب يريد أن يتدين أو يدعو إلى الله أن تأخذ بلحيته وبرأسه إلى مجالس العلماء.

٥٥- كثيرون في قراهم ومجتمعاتهم يريدون الرحلة في الطلب ويعتاقهم من يظن النصح قائلًا: لمن تتركون قبيلتكم ومجتمعكم؟ ابقوا فيهم فهو خير لكم .. وربما قالوه هم لأنفسهم .. هذا في ذات الأمر قاطع لا ناصح.

٥٦- إن الله لم يأذن بالنذارة إلا بعد النِفار والتفقه: {فَلَوْلَا نَفَرَ مِن كُلِّ فِرْقَةٍ مِّنْهُمْ طَائِفَةٌ لِّيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ} [التوبة: 122].

٥٧- وأما النفرة إلى الشهادات الجامعية فلا تكفي في التصدر ولو انقلب إلى أهله مسرورًا حتى يجالس العلماء؛ ويرى المسطور في عباداتهم ومعاملاتهم وأخلاقهم.

٥٨- لا يجوز أن نعود بشهادات مجردة لا تحمل علمًا ونَخْتِل بها العامة.

٥٩- الوثيقة الماضية اجتمع لها قريب من أربعين رجلًا من الأعيان .. وهم أهل حكمة ورأي ودين، لكن غررت بهم لحانًا وشهاداتنا .. كانوا يظنون أن لدينا كتابًا ينطق بالحق وهم لا يظلمون .. وهذا أمر حُق للجميع أن يتبصروا فيه.

٦٠- في الأجواء نقمة على أعمال الناس التي تخالف “ثقافتنا الدينية” ولو كانت وفق دليل واجتهاد .. كان هناك تسلط على المجتمع بالرأي الذي لو خالفوه لرموا بكل كريهة .. لو كان معنا “علم مؤصل” بدلًا عن هذه “الثقافة الدينية” لما كان هذا الاحتقان.

٦١- كان الواحد إذا اطلع على غريب الأقوال في التحريم خاصة استقعد للناس وقال: ها أنا ذا .. والعامة حباً للدين وخوفًا من تسلط التصنيف عليهم يخنعون .. استصحبوا في المستقبل بعض حكايات الماضي:

٦٢- كان الناس عندنا في القرية على فتوى معتبرة، يكبرون يوم العيد من خروجهم من بيوتهم إلى خروج الإمام للخطبة: {وَلِتُكْمِلُواْ الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُوا اللهَ} [البقرة: 185] .. كانت ترانيم جدي وأقرانه بالتكبير أجمل مشاهد العيد .. وإذ هم كذلك جاء رجل من أقصى المدينة يسعى قال: يا قوم هذا لا يجوز… بل بدعة!!!

٦٣- من ذلك اليوم اتخذ الناس طرقهم ومصلياتهم يوم العيد قبورًا .. وكادت سنة التكبير أن تتوارى بالحجاب.

٦٤- ليس الخطأ حمل تلك الفتوى، فهي صادرة من أهل الفتوى، الخطأ في فهمها، وفي تنزيلها على الواقع الذي كنا فيه، وفي جعلها هي الدين الذي لا يحتمل الحيدة، وإلزام الناس بها بسيف الحياء .. لا يمكن أن يكون أمر من الوحي بدعة .. البدعة في طريقتنا في أخذ العلم ونشره .. الفتوى تخص هيئة مقصودة للتكبير الجماعي، لا تكبير الجماعة الذي فعله الصحابة -رضي الله عنهم-.

٦٥- هذا عارضٌ ممطرنا بغيره لكن المقام مقام تمثيل .. لقد اكتسى الشباب من حين نصَّبوا أنفسهم للدعوة قداسة لا يستحقونها، إذ لا عصمة ولا حجة في قول أكثرهم، وهذا خطأ ارتكبوه والعامة على طرف سواء:

الشباب يوم امتطوه
والعامة يوم صدقوهم.

٦٦- وهذا الذي نذكره قد صاح به العلماء من قبل في فتاوى منشورة؛ لمثل الشيخ عبدالعزيز في التحذير من الجهل وسلوك الجفاء أو الغلو، وفصله تفصيلًا الشيخ ابن عثيمين في كتاب: “الصحوة ضوابط وتوجيهات”.. وأما الألباني -رحم الله الجميع- فقد كان النذير العريان، يُصَوِّتُ بالتصفية والتربية، ولكن:

٦٧- غلبت كثيرًا:
‏الثقافة الدينية على العلم المؤصل
‏والعاطفة على الحكمة
‏والحزبية على الجماعة
‏والتنطع على السماحة
‏والتنفير على التبشير
‏والعسر على اليسر
‏وحظوظ النفوس على مراد الله.

٦٨- هذا الكلام قد يكون مؤلما لكنه النصيحة التي جعلها رسول الله ﷺ لخمسة:
لله، ولكتابه، ولرسوله، وأئمة المسلمين، وعامتهم. رواه مسلم.

٦٩- وهو أمرٌ لا بد من كشفه، والنصح للمسلمين فيه، وإلا كنا غششة، وآل أمر حديثي العهد بالبلوغ والتدين والدعوة إلى ما كنا فيه.

٧٠- وهذا لا يعني نسف الجهود، أو التطاول على أهل الطريق، فإن الخير ظاهر فيهم وكان سعيهم مشكورًا، لكن ما عندنا من صواب مرده إلى هلال من العلم، والقصد أن تصل الأقمار إلى الإبدار والليالي البيض .. ونريد أن نمنَّ على الذين استضعفوا بشيء من الإنصاف.

٧١- لقد قلت كلمة من قبل توحي بها وسطية الدين:
الشريعة أسمح وأرحم مما يظنه المتنطعون، وأحكم مما يتصوره المميعون المتفلتون {وَكَذَٰلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا} [البقرة: 143].

٧٢- سأرخي الرَسَن للذكريات، ونتبسط الحديث في فسحة الإجازة، حتى يصدر الرعاء عن الحيا في مواضع القطر ..

وجذوة أخرى أوراها الجهل:

٧٣- تقسيم المسلمين إلى ملتزم وغير ملتزم .. هذا ليس خطأ في ذاته؛ فالناس كذلك حتمًا:
منهم ظالم لنفسه
ومنهم مقتصد
ومنهم ملتزم بالشريعة سابق بالخيرات.
ولكن الزلقة يوم جعلنا هذا التصنيف مبنيًا على أمرين مستحبين أو واجبين على الخلاف:
لحية
وثوب
فكان هذا من كبير جنايات جيل الطيبين على العامة.

٧٤- لقد صار هذا التصنيف جوازًا يعبر به من ملكه حتى إلى المنكرات ولا يسائله أحد، وأجحفنا في حق أناس قصّروا في شيء منه، لكنهم قد أخذوا من الدين بحظ وافر، من الإيمان، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، والمروءة، وبذل المعروف، وربما كانوا لله خاشعين .. خاصة من ولاة الأمر وكبار السن وأهل الشأن.

٧٥- وهذا التمييز العنصري بين المؤمنين شيء ما سُبقنا له في التاريخ، لم يكن في جيل الصحابة ولا التابعين ولا تابعيهم ولا إلى عهد قريب.

لا أدري أهو من إفرازات الحزبيين والإخوان؟

بل هو إفراز الجهل.

٧٦- انظروا كيف وضع القرآن حتى المقصرين في بعض فروع الشريعة من المؤمنين في كنف الرعاية:
{ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا ۖ فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِّنَفْسِهِ وَمِنْهُم مُّقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ} [فاطر: 32]، حتى الظالم لنفسه أضافه الباري إلى نفسه: {من عبادنا}، وجعله مصطفى من: {الذين اصطفينا}.

٧٧- {وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ ۚ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ} [التوبة: 71].

جعلهم جميعًا أولياء، حتى أهل المنكرات داخلون في استغراق أل، يتولاهم إخوانهم، ومن حسن توليهم يتناصحون بالمعروف .. هذا تَعَطٌّف القرآن عليهم، وأما نحن فقد أغرينا بينهم العداوة والبغضاء في الصغيرة والكبيرة.

٧٨- {وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا ۚ وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُم بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا} [آل عمران: 103]:

انظروا كيف عمَّ بالاعتصام جميع المؤمنين محسنهم ومسيئهم، وجعله نعمة منه، وكيف فرق بين حال الجاهلية والإسلام:
جميعا
ولا تفرقوا
فألفَّ
بين قلوبكم
إخوانا.

٧٩- تولي المسيء وأخوته ليس رضًا بالمنكرات، لكنَّ بغضنا للمنكر لا يبيح البراءة من صاحبه، ومنابذته، والنفرة منه، والقسوة معه، والإغلاظ له في القول .. حتى إذا لقيه أحدنا عبس وبسر، وأدبر واستكبر .. الرسالة رسالة رحمة للعالمين.

٨٠- ولذا كان من رحمة المؤمنين بإخوانهم العصاة تخصيصهم بالدعاء: “وهب المسيئين منا للمحسنين”.. وأخبر ﷺ عن الدعاة وأتباعهم فقال: “هم القوم لا يشقى بهم جليسهم” متفق عليه .. هل رأيتم إذاً كم كنا نقسو؟

٨١- ولتعلموا جور تصنيفنا الناس إلى ملتزم وغير، قارنوا بين مشاعرنا وتعاملنا مع من يشرب مكروه الدخان مثلًا، وبين إقباله ﷺ على شارب كبيرة الخمر .. لمّا قيل فيه ما قيل قالﷺ: “لاتلعنوه ماعلمت إلا أنه يحب الله ورسوله” البخاري.
أرأيتم: هذا الذي أقبل بقلوب الخلق عليه ﷺ وأدبر بها عن بعض المتدينين.

٨٢- التعبير بالكراهة في الدخان -أي التحريمية- مراعاة لمراتب المحرمات كما سيأتي.

٨٣- نعود للتصنيف بين واقعنا وبين الفقه: الذي كان، وجاءت به الشريعة وصفان:

عام في البشرية وخاص في المسلمين.

فالعام:

كافر(ظاهرًا وباطنًا أو باطنًا).
فاسق
مؤمن

والخاص:

مسلم {هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ} [الحج: 78].
مؤمن
محسن

مقربون
وأصحاب اليمين
وأصحاب الشمال

ظالم لنفسه
مقتصد
سابق

٨٤- هذه الأوصاف التي جاءت بها الشريعة ليس فيها شيء يبنى على صلاح الظاهر فقط .. نعم صلاح الظاهر من الإسلام ومن شعب الإيمان، أما أن تكون معيارًا للصلاح فلا حتى في الآخرة: “إن الله لا ينظر إلى صوركم” رواه مسلم، ولا عند الله: {إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ} [الحجرات: 13].

٨٥- ومتى كان المسلم فاسقًا فيتنبه طالب العلم عند معاملته لأربعة أمور قد تغيب عن كثير:
أن الفسق خروج عن مطلق الطاعة، لا يختص بظهور المخالفة، بل يكون بخروج الظاهر أو الباطن، بالقول والفعل والاعتقاد، هذا الأول.
الثاني: أن وصف الفسق لا يرفع عنه مسمى الإيمان، فهو مؤمن بإيمانه، فاسق بمخالفته.

٨٦- الثالث: أن الفسق مراتب، قد يقع حتى ممن صلح ظاهره بأشد أنواع الفسق كالرياء والظلم والعقوق وأكل الربا، فقد يكون ملتزمًا في التصنيف وهو من أهل الموبقات في الباطن .. وفسقه بهذا أشد وأقبح من فسق غيره بكبيرة أو صغيرة.

الرابع: أن فسقه لا يسقط حرمة إسلامه.

٨٧- وعليه فإنه لا يؤاخذ بفسقه ما لم يكن صائلًا بفسقه، أو يرتكب ما يوجب حدًا أو تعزيرًا، فيؤاخذه القاضي وحده، ويناصح دون أن يعيّر فضلًا عن أن يظلم بسببه .. ولا تجوز غيبته إلا للتحذير منه عند الاستشارة أو تحذيرًا عامًا، فتجوز بهذا القصد الحسن رعاية لحق الجماعة على الفرد.

٨٨- كذلك يرخص في ذكره بفسقه لإرادة دفع شهادته، أو منع ولايته وإمامته، هكذا وحسب، أما أن نتخذه سوطًا نضرب به كل من خالف، ونسمه به على الخرطوم فعدوان لم يحفظ عن النبي ﷺ ولا عن أحد من ورثته .. والمؤمن لا يكون شامتًا ولا سبابًا متعاليًا.

٨٩- وعلى هذا يحمل قولهم بالرخصة في غيبة الفاسق، أي حيث وجدت المصلحة:

الذم ليس بغيبةٍ في ستةٍ .. متظلمٍ ومعرفٍ ومحذرِ
ولمظهر فسقا ومستفتٍ ومن .. طلب الإعانة في إزالة منكر

٩٠- ننهي الكلام على خطأ التمايز والتصنيف والتنابز والتعالي على الناس بالدين ..

ونعيد القول: العصمة بالعلم وحسن الخلق وبقية أركان النجاح الآنفة..
هذا الحَدَب على فئة العصاة يؤول بها إلى أن تفيء إلى أمر الله .. هذا هو سر “ما بال أقوام” في خطاب صاحب الخلق العظيم صلوا عليه وسلموا تسليمًا.

٩١- ولمن قال: أين العلماء؟
فقد أشرت قبلُ لجهود الأئمة الثلاثة في رتق ما انفتق .. لكننا ما كنا نقرأ أو نقرأ على أنفسنا لا على العلماء.
في السياق: كان للعلامة أبو زيد -رحمه الله- رق منشور في تصنيف الناس بين الظن واليقين.

٩٢- ومن أصول العلم التي يكون بها العصمة من هذا الداء: العلم بمراتب الدين، وإنزال المسائل منازلها، فلو تفقه طلاب العلم في هذا لخفت وطأتهم على إخوانهم عند المخالفة:

٩٣- فمما ينبغي أن يفقه حق الفقه أن الدين:
مراتب
وأركان
وواجبات
وفضائل

والمنهيات:
كفريات
وكبائر
وصغائر
ولمم

٩٤- والمعاصي:
محرمة
ومكروهة تحريمًا
ومكروهة تنزيهًا

وتنقسم من وجه آخر إلى:
مجمع عليه
ومختلف فيه

وتنقسم إلى:
محرم غاية
ومحرم وسيلة

وتنقسم إلى محرم أو مكروه:
بالنص
وبالدليل
وبالاستنباط والنظر

وفقه هذا كله يؤثر في التعامل مع المخالفين.

٩٥- هناك أمور كان يُعقد عليها الولاء والبراء وولولت بها المنابر، وصاح بها العريان، بينما لو علمنا فقهها أنها من الصغائر إجماعًا حتى عند من قال بالتحريم لأنكرناها وما بلغنا بها هذا المبلغ .. ربما قال فيها ﷺ كلمة واحدة ومضى إلى ما هو أعظم منها، وربما لم يقل فيها نصًا .. الأمثلة متعددة.

٩٦- بينما القضايا التي عاش لأجلها كالتوحيد ورفع الظلم ومحاربة الكبائر قد لا نعطيها حقها .. إحصائية الخطب والمحاضرات التي تحذر من الشرك والرياء والربا والعجب والكِبر كانت في زماننا قليلة جدا … الاستفتاءات عن صبغ اللحية بالسواد أو تشقير الحواجب أكثر من السؤال عن الرياء ..!

٩٧- أعرف شركة في بيوع التقسيط لأشخاص مسابحهم في أيديهم .. إذا وجدوا فراغا تحلقوا على رياض الصالحين .. حتى إذا جاءهم زبون تبايعوا معه بالعينة أو التورق المنظم أو قلب الدين ..!
أهذا خلل في التفكير والتدين..أم هو أكل للدنيا به؟

٩٨- أذكر أنموذجًا آخر من الأخطاء في التدين قديمًا، يمكن أن يعبر عنه بسطحية التدين، صاغها أحدهم قديمًا: بالالتزام الأجوف:
التزام الظاهر.
الالتزام مجاراة للمجتمع ولمّا يدخل الإيمان في القلب.
الالتزام وفق الطرائق الحزبية.

٩٩- كانت طوائف كثيرة يظهر أحدهم ما أسموه الالتزام وبدلًا عن أن يتزود العلم الذي يعصمه من فتن الشبهات والشهوات، ويثني ركبتيه عند أهله في بلده أو يرحل، عوضًا عن ذلك ينخرط في فِرَقٍ إنشادية أو مسرحيات تمثيلية .. جماعات، وقيادات، ومعسكرات، في المدرسة، والجامعة، والجامع.

١٠٠- هذا ضغث على الإبالة، شيء ما عرفه الأنبياء ولا الصحابة ولا ورثتهم من السلف إلى خلفهم المبارك من أئمة الدعوة، وتلاميذهم إلى الشيخ محمد بن إبراهيم وتلميذه البرِّ وطلابه -رحمهم الله – إنما هي دافة الحزبية جاءت به.

١٠١- كان النبي ﷺ يسمع الحداء عَرَضَا تُحدى به الإبل في الطريق إلى الآفاق، وصارت الأناشيد غاية ووسيلة يُحدى بها الشباب في الطريق إلى الله.

١٠٢- هذه الغثائية في الدعوة أركست أصحابها وأتباعهم إلى خطوتين وعرتين:

استصحاب بعض شعب العصيان: من الرياء والحسد والعجب والظلم.

سهولة الانتكاس.

١٠٣- ومن تماسك ربما طمر إلى حافة الغلو مع خطاب التهييج الذي كان يُمارس على الشباب.

١٠٤- العلم الحقيقي .. علم الوحي بحفظ أصوله والتفقه في فروعه على سنن المتقدمين لم يكن حاضرًا في برامج الشباب إلا على استحياء .. لا يحضر سوى بعض الرقائق، أو النصوص التي نقرّع بها العصاة أو ولاة الأمور .. أو حِلق قرآن لا يكاد يجاوز الحناجر .. لا يتعلمون العلم والعمل كما الصحابة كانوا يصنعون.

١٠٥- ومما الْتَكَّ فيه طوائف من الشباب في العقود القريبة وكان أشد فتكًا بهم وأضعف تثبيتًا: التنظيمات الحزبية .. وهذا شيء أيضًا ما عُهِد فيمن سلف، هل سببها في منبتها الاتصال بالمستعمر، أو اتصالهم بالبعثات العلمية، أو الطمع في إعادة شتات الدولة العثمانية، أم دسيسة أم تعددت؟ لا أدري؟

١٠٦- أما سببها في الداخل فظاهر، وهو تتلمذ جماعة من البارزين على أقطابٍ منهم في الدراسة الجامعية، وأشرف بعضهم على رسائلهم الجامعية وتكوينهم العلمي .. نعم كان الاتصال بعلماء الأمة هنا مثريًا لبعض الرموز وموازنًا، لكن نزعة النقمة على الحاكم والمجتمع التي في خطاب الإخوان كان ظاهرًا عليهم.

١٠٧- لا بد أن نكون ناصحين للشباب في وضوح، وهذا التحذير من الانتماء الحزبي كتبتُ عنه هنا قديمًا من ست سنوات، والحمد لله، حتى لا يقال قد وافق البطشة الكبرى .. فإن ضرره أي هذا الانتماء على طالب العلم ذريع.

١٠٨- وقد صاح بالحزبيين والحزبية الأئمة الثلاثة -رحمهم الله-، ولقوا في سبيل ذلك الأذى، خاصة الألباني -رحمه الله – الذي فاصل إلى أن وُجِهت له طعون حتى في عقيدته.

١٠٩- اكتب فقط في محركات البحث: تحذير العلماء من الحزبية؛ لترى أن العلماء سبقوا غيرهم إلى ذود الشباب إلى حياض السنة والسلف، لكن الشباب كانوا يتملصون من هذا بحيل شيطانية؛ كالقول بأن العلماء يواطئون السياسيين، أو أنهم لم يحيطوا بالواقع، وهذه أيضًا زلقة أخرى.

١١٠- والتاريخ أنصف العلماء والحمد لله، فلم يوضع القبول إلا لهم، ولم تؤخذ الفتوى في الحلال والحرام إلا عنهم، ولم تكن الإمامة إلا لهم، ولم يستبن الرشد والسلامة والحكمة خاصة بعد أسئلة الثورة إلا في منهجهم، وهذا أيضًا كتبته قبل نحو عشر سنوات: الخروج عن ظل العلماء مغري لصاحبه، لكنه يعرض نفسه للاحتراق.

١١١- ومما ذكرته قبلُ أن الانتماء الحزبي نوعان:

٠ حقيقي: وهو الأكثر في بلد النشأة وفي البلاد متعددة الأحزاب.

٠ومعنوي: وهو الأكثر في بلادنا، فمن نفى عن نفسه أن يكون إخوانيًا وهو يتنفس برئتهم إنما عنى الأول.

١١٢- وتعرف الحزبية في لحن القول، وبأمور أخرى:

٠ كالتتلمذ على رموزهم.
٠ والاهتمامات العلمية والدعوية.
٠ وفي كيفية التعاطي مع الأحداث.
٠ والاختلاف البين بين طرائقهم وطرائق العلماء المعهودة في مواجهتها.
٠ والمشاركة في ملتقيات وتنظيمات وبرامج خارجية.

١١٣- لابد من الوضوح في هذا حتى يكون طلاب العلم على بينة من أول الطريق .. أفضل إضاءة تنير الطريق لزوم هدي أئمة أهل السنة في العلم والدعوة.

١١٤- النَفَس الحزبي الذي طغى هو الذي ولأول مرة صنع الصراع بين الدعاة والولاة، بحجة تعزيز الانتماء للأمة، هذا شيء لم يُعهد في دولة قامت على المؤاءمة بين العلماء والنظام والمجتمع من أول يوم أسست فيه إلى اليوم.

١١٥- لو أنصتوا للفقه وللعلماء لعلموا أنه: لا تعارض بين الولاء للوطن ولولاة الأمر مع الولاء للأمة، خاصة في هذا البلد الطيب السعودية، الذي تبنى الإسلام منهجًا، وسعى في مصالح الأمة كلها، وضم أئمة أهل السنة الذين تلتف الأمة حولهم وتثق فيهم منذ نشأتها إلى ساعتها هذه.

١١٦- وكان من عثرات هذا الانتماء زعزعة ثقة الناس بعلماء الأمة .. كان هناك من يتقمص لأمة سيد الشهداء الذي لا يخاف في الله لومة لائم .. وينطق بشيء ما نطق به علماؤنا .. وكان الشباب يطربون لهذا، ولو كنا نسمع أو نعقل ما جَذِلنا لشيء ينسب للعلم ولا ينطق به العلماء.

١١٧- هذا الشحن هو جذوة التكفير عند طائفة فيما بعد؛ قصده المنظرون أو لم يقصدوه .. وإلا فإلى أي مذهب سيذهب الشاب الذي يسمع وصف بعض الحكام بفرعون، أو تشبيهه بنكفور الروم .. كان هذا في أدبياتهم ومسرحياتهم، كان هناك قصيدة: رسالة إلى فرعون مصر ..! كانت دولةً بينهم.

١١٨- لا ننفي أن هناك إخلاصًا في طرح بعضهم، وعمقًا في التفكير عند آخرين، وغيرة عظيمة على الدين والأمة، وهذا كله هو الذي أغرى بهم، لكن أعوزت الحكمة، ونبا بهم الشذوذ والتفرد عن منهج السلف .. وهذا الذي جعل كلمة العلماء قد تختلف فيهم بين تزكية تارة وتحذير تارة أخرى.

١١٩- نقطة نظام:
٠من الإنصاف أخذ جميع الجمل والتغريدات في سياق واحد.
٠ الهدف هو أن تسلم البقية الباقية والأجيال القادمة خاصة طلاب العلم من أخطاء اكتوى بها غيرهم.

١٢٠- هذا النقد لا يعني دعوى العصمة وعدم وجود الأخطاء والمظالم، ولكن لأهل السنة منهج ظاهر في التعامل معها وفق نصوص الوحي التي ترجم عن فقهها الأئمة المشهورين بكل وضوح وأمانة، وكفى بهم إسوة في هذا.

١٢١- نتكلم قليلًا عن اتباع التنظيمات الحزبية ومادة الغفلة من الشباب .. وكيف جعلهم نَزَقهم وضعف بصيرتهم وإعراضهم عن هدايات العلماء الراسخين وقود النار في مواجهة الأنظمة أو في بؤر الاحتراب.

١٢٢- اتخذوا رؤوسًا، ألبسوا كل واحد منهم عمامة العلامة، وغرهم كثرة محفوظاتهم أو فصاحتهم وجرأتهم، وتفيهقهم في السياسات، وصاروا لا يصدرون إلا عنهم ويستخفون بمن خالفهم من هيئة كبار العلماء وطبقتهم.

١٢٣- الاتباع لم يكونوا على مستوى الرموز في التفكير والعلم، كانوا هم الصفحة التي ظهر عليها الإنحراف، بعضهم أبدأ صفحته في الداخل، وكثيرون التحقوا بمناطق الصراع، وترجموا بجرأة عن أفكارهم بأفعالهم وأقوالهم .. إلى الدرجة التي تجعل حتى بعض الرموز يستكبرون جرأتهم.

١٢٤- خروج هؤلاء الشباب إلى مناطق الثورات والحروب بوأهم مناصب ونياشين وألقاب تحكي صولة الأسد .. استطاعت المخابرات المختلفة أن تتلاعب بعواطفهم وأن تنفخ رمادهم تارة وتطفيه تارة كما هو مشاهد.

١٢٥- كان يكفي في أحدهم أن يكون جريئًا وصيتًا ومتهورًا في غيرته ويجيد اللطم والطعن .. حتى يكون أحسن ربائب الأعداء.

١٢٦- يخرج ولمّا يستكمل آلة العلم، وتعيّنه المخابرات قاض للقضاة، أو أميرا على ناحية .. كان سلوكًا أقرب ما يكون إلى المسرحيات التي كانوا ينظمونها في برامجهم الصيفية .. صاح العلماء بهم حتى من على منبر الحرمين ولم يفيقوا.

١٢٧- بعض طلاب الجامعة عندنا قبل عشر سنين حاولت وغيري ثنيهم عن أن يكونوا مطية لهدم الإسلام، وزيادة شتات المسلمين باسم الغيرة، والجهاد، دون جدوى، قد كتبت في أوائل إنسلالهم إلى مناطق ما أسموه الجهاد ما قد يتبصر به العجول:
أن القتال في سوريا حينئذ لا يأخذ أحكام الجهاد من وجوه متعددة وكان على هذا الرابط، ولا أدري أين ذهب؟

١٢٨- هذا الذي جعل أهل السنة يعبرون عن أهل البدع بأهل الأهواء، حتى لو كان لهم إخلاص؛ لأن مآل حالهم وحال اتباعهم هو تقديم الآراء والأهواء على الأدلة ومنهج السلف .. وهذا مثال لهذا:

١٢٩- الحزبيون الذين كفروا الدولة أو كادوا في حرب الخليج الأولى لأنها أخذت بفتوى هيئة كبار العلماء في الاستعانة بالكافر لضرورة دفع الصائل .. بعضهم اليوم ارتمى في الدول الصليبية كما كان ينعتها هو، وبدأ يطعن في دولة الإسلام وعلمائها وولاتها بحجة إنكار المنكرات ونصرة المظلومين.

١٣٠- من طرائقهم التي كانت تزرع الإحن .. إشاعة المنكرات .. يحدث المنكر في زاوية في المدينة ثم يصيحون به بحجة الإنكار حتى يبلغ الآفاق .. كان هذا عبر الشريط، وهو الواقع اليوم عبر التطبيقات الحديثة.

١٣١- إنكار المنكر شيء والولولة به شيء آخر .. صوروا للناس أن الأمة هلكت .. النبي ﷺ قال: “من رأى منكم منكرا فليغيره ..”، لم يأمر بنشره وإذاعته .. كانت المنكرات المتعلقة بالشرك ووسائله وسيلة لتكفير الواقع والساكت من الولاة والعلماء ورجال الدولة.

١٣٢- الشحن ضد الأسرة والقبيلة والحي، حتى يصل الشاب إلى تكفيرهم، لما يرى من المنكرات .. الغيرة والمنكرات هي غالبًا ما يستفزهم .. تغييرها أصل من الأصول الخمسة عند المعتزلة ثم الخوارج، على أي وجه كان هذا التغيير حتى لو انقض الحائط .. وهذا هو محل الزلل ونقطة الخلاف مع أهل السنة.

١٣٣- سألني شاب قبل مدة عن البقاء مع زوجته .. لقد كفّرته وكفرت أباه، وسلسلة لا يدري متى تقف .. من الذي شحنها بهذا؟

١٣٤- كل هذه المزالق مأخذها الجهل وعدم التزام هدي الأئمة .. ولذا تجد أحدهم تارة أقرب إلى التكفير، وتارة يتماهى حتى مع المنافقين والكافرين، ويتمدد في الترخص والشذوذ والتلفيق المذهبي حتى يقال: ليته سكت.

١٣٥- هذا التذبذب إلى هؤلاء ثم إلى هؤلاء جعلهم في محل ريبة وعدم ثقة من الراعي والرعية.

١٣٦- المراجعات والاعتذارات منهم متكررة، وهذا لم يقع من أحد من علماء الأمة، قد يرجع العالم عن رأي لكن أن يعتذر عن منهج نافح عليه مدة فلا، لا يقع إلا ممن أخذته الأهواء يمنة ويسرة ولم يقف على قدم في العلم راسخة لأول الحشر.

١٣٧- فاعتراف بعضهم بالإضرار بالمجتمع اعتذار صحيح عن أفعالهم هم، وأما الحجة الواضحة التي كان عليها العلماء فلا يمكن أن يُعتذر عنها، ولا يملك أحد أن يفوه به.

١٣٨- نختم الحديث عن هؤلاء بذكر مزلة كانت في الخطاب، وهي تقريع المؤمنين بنصوص نزلت في الكافرين ..والأمثلة كثيرة .. أشهرها في خطابهم:

{وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ فَأُولَٰئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ} [المائدة: 44].

١٣٩- ومنها تقريع الناس بالمثاليين:
فيقرع الحكام بعمر -رضي الله عنه- أو بالمعتصم عبر بكائية:
ربّ وا ..
ويقرع العلماء بالعز
ويقر العامة بالفضيل
والتجار بأبي ذر …

١٤٠- الخلاصة: أن السعة والرحمة والعدل والأخلاقيات التي كانت في المجتمع النبوي لم تكن ماثلة في مظاهر لمجتمعنا بسبب هذه التعبئة .. الأخلاقيات التي كان يتعامل بها ﷺ مع المحاربين لم نستطع أن نرقى أحيانًا إليها في التعامل مع إخواننا.

١٤١- كلمة ليتها سبقت سابقتها: عمر -رضي الله عنه- خليفة راشد، لكل مسلم حاكم ومحكوم فيه إسوة بعد رسول الله ﷺ، لكن استعمال سيرته في التعيير والتعريض آل بطائفة إلى الإحباط ثم الطعن ثم الخروج باللفظ ثم..عمر لم يكن له ثان في الصحابة بعد الصديق فكيف نطالب به مع أمارات الساعة .. أو بعشر معشاره؟

١٤٢- استطاع الصحابة -رضي الله عنهم- أن يتعاملوا مع الحجاج الثقفي على بغيه، وعجز هؤلاء أن يستوعبوا من هو مثله أو خير منه وأرحم.

١٤٣- كان التجهم رسم من رسوم التدين، لا أدري ما الذي أوحى بهذا الذي يوحى؟ لا أظنه إلا الرياء .. حتى يقال: فلان زاهد عابد .. لا آصرة بين الزهد والتجهم، لكنه الشيطان يتلاعب بأوليائه، وإلا فهذه صورة سيد الزهاد علقها جرير على لوحة قلبه: “ماحجبني ﷺ منذ أسلمت،ولا رآني إلا تبسم في وجهي”. متفق عليه.

١٤٤- لابد أن نستوعب أن الإسلام دين حياة، وأن الحياة في سبيل الله إذا كانت خيارًا خير من الموت فيه، وأن إدخال الناس في الإسلام خير من قتلهم على الكفر.
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ} [الأنفال: 24].

١٤٥- ومن الغمرات: الخلط بين ما يجب من عمل القلب ويجوز للجوارح .. فمنه: خلق تعارض بين التعامل مع الكافر غير المحارب والبراءة من دينه وليس بينهما تعارض: {لَّا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُم مِّن دِيَارِكُمْ أَن تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ ۚ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ} [الممتحنة: 8].

١٤٦- ومنها طغيان الطرح الفكري والسياسي ومتابعة الأحداث في الدروس والخطب ويقابله تهميش مسائل الاعتقاد، ومن تحدث فيها استعملها فيما نُقِم عليهم .. وهذا النقد لهذه الجزئية ووجهوا به حينها.

١٤٧- ولقد استضيف الشيخ عبدالعزيز في جمعة فجعلها الخطيب عن التوحيد! وعلق الشيخ وأكد بعد الخطبة على ضرورة التزام هذا المنهج النبوي .. لكن كان ما كان.

١٤٨- وهذا -أي النفرة من الكلام في التوحيد- من المآخذ التي اجتمع عليه جميع الطوائف والأحزاب والجماعات سوى علماء هذا البلد المبارك .. كالإخوان والتبليغ والمتصوفة..

١٤٩- من ينازع فيما ذكرنا لا أدري أي شيء واجهته الدولة إذًا؟ وأي شيء نقده الأئمة وصاتوا بأهله؟ ولا أدري كيف تستر النتائج التي انتهت بكثير من الشباب إلى الفتن والهرج والمرج هناك وهنا؟

١٥٠- بعض الإخوة يطالب بالتناصح وعدم التشهير، وهذا شيء حسن، لكنه منهج ما ارتضوه مع غيرهم، بل لم يستعمل أحد المنابر في نقد الدولة والأنظمة والمخالفين والمنكرات مثلهم .. ونحن هنا لم نسم أحدًا؛ فالقصد النصح لطلابنا لا التشفي.

١٥١- قد كتبت شيئًا أدين الله به من وحي الشريعة والتاريخ، شفقة على طلاب الغد، وأما القصد الخالص فلا أدري، واللهُ من وراء كل عامل وكاتب وكاسب وما كسب .. اكتفي بهذا واعتذر عن الإطالة حول هذا المنقلب، ونلتفت بعدُ إن شاء الله إلى قَتَرةٍ أخرى أضرت بطلاب العلم والدعوة إلى الله.

١٥٢- ومن رذائل المناهج التي عرضت للشباب في العلم والدعوة ما انتهجه لفيف العصرانيين التجديديين، أو “المجدَّدينات”، “جمع مخنث سالم” كما يسميهم الأديب الكبير كامل الكيلاني رحمه الله.

١٥٣- هؤلاء جعلوا التلفيق والتمييع والشذوذ مطيتهم، واضطربت أهواؤهم في هذا:
فمنهم من يغازل الغرب.
ومنهم عابد شهرة.
ومنهم مخادن شهوة.
ومنهم متحرش بالسياسيين أو الليبراليين.
ومنهم صاحب مكيدة سبأية تنفخه الرافضة والمنافقة وغيرهم لتشويه منهج أهل السنة.

١٥٤- ليس لهم نصيب في أصول الفقهاء المحكمة والمضطردة، ولا يرقبون في محكمات الشريعة ومقاصدها إِلًّا وَلا ذِمَّةً، كثيرة طعونهم في السنة الصحيحة وحملتها، إذا توهموا تعارضًا بين أفهامهم المضطربة والنص ركنوا إلى الهوى.

١٥٥- هؤلاء بفضل الله لم يكسبوا ثقة ولي أمر ولا عامة، ولا يقبلُ فتاواهم ويغازلهم أو يروج لها إلا من وُسِمَ بعقابيل المنكرات، وتقحم العقبة بلا فتوى أصلا.

١٥٦- هذه الغارة الخبيثة على الشريعة تصدى لها المرابطون على ثغورها، بكتب ومقالات وخطب، أشرت إلى شيء منها في هذا الكتاب “إرسال الشواظ “ منها: التعالم، وحراسة الفضيلة للشيخ بكر -رحمه الله-، وأخرى تجدها هناك يتوكأ عليه من أراد أن يهش سخال أفكارهم.

وكم من فقيه خابط في ضلالة … وحجته فيها الكتاب المنزل

١٥٧- حاشية أخرى للتخبط:

١٥٨- من أوخم ما تعرضت له الدعوة: ركوب غثاء الناس في سيارتها .. وصارت مصعدًا للشهرة ومصدرًا للتكسب.

١٥٩- لا بد أن يقال: إن هذه السطحية في العلم والتدين هي التي أفرزت أناسًا يتسمون بالدعاة يتكلمون بلا بينة، بل سُمِعَ من ينطق بالفحش في سياق وعظه ودعوته للأحداث صغار السن .. هذه السطحية هي التي سُمِعَ من خلالها القصص الكاذب، الذي هو أقرب ما يكون إلى خرافيات الرافضة.

١٦٠- همُّ أحدهم في توجيهه ووعظه أن يقهقه الحاضرين، بالصدق والكذب، بالفحش والسفالة أو بغيرهما .. أبدًا ليس هذا من منهج النبوة، ودين الله أغلى من أن يتكلم فيه الرخيص، وما قد يكون معهم من مصالح لا يُرَقّعُ مفاسدهم.

١٦١- إن من الغش للدين والرسول وأئمة المسلمين وعامتهم أن يسلط من هب ودب على مكبرات الصوت يتكلمون في الدين … يمسى مفحطا أو مروجا ويصبح ناسكا واعظا مفتيا…كل هذا بحجة استقطاب الشباب والكلام معهم بلغتهم، كأن النبي ﷺ لم يبعث في أمة أكثرها من الشباب.

١٦٢- لا أستطيع أن أرفع لافتة الأسماء والنماذج حتى لا نروج للجهل والحماقة، لكن من أطلَّ رأى رؤوسهم .. صاروا مصدر سخرية وتندر من الموافق والمخالف:

فإن قلتَ: جدُّ العلم كابٍ، فإنما … كَبَا حين لم يُحرس حماه وأُسلِما

١٦٣- اتباع هؤلاء من أكثر الشباب تعرضا للشذوذ والانتكاس.

١٦٤- أحاديث ضعيفة، وحكايات ملفقة، يصبغونها بالكذب ليؤثروا ويُغرِبوا .. كل من مكنّهم في المساجد أو المخيمات والمناسبات شريك في سوادهم.

١٦٥- انظر كيف صوّر ابن الجوزي في كتابه “تلبيس إبليس” تلبيسه على الوعاظ والقصاص.

١٦٦- دنا شاب من شعبة بن الحجاج فسأل عن حديث فقال له: أقاص أنت؟ فقال: نعم، قال: اذهب فإنا لا نحدث القصاص، فقال له: لم؟ قال: يأخذون الحديث منا شبرًا فيجعلونه ذراعًا! أي أنهم يزيدون في الحديث.

١٦٧- لم يكن في الحرمين ومساجد أئمة الدعوة إلا مجالس التفسير والحديث والفقه، هل التغير يوم دفّ الإخوان؟ أو لخطة أهل البدع من المتصوفة والرافضة فإنهم أهل حكايات؟ لا أدري .. لكن الذي سبقهم إلى هذا هم الخوارج.
قال ابن سيرين: “القصص أمر محدث أحدثه هذا الخلق من الخوارج”.

١٦٨- قال العراقي: “فيجب على ولاة أمور المسلمين منع هؤلاء من الكلام مع الناس”.

وفي المدخل لابن الحاج: “مجلس العلم الذي يُذكر فيه الحلال والحرام واتّباع السلف -رضي الله عنهم-، لا مجالس القُصّاص فإن ذلك بدعة-.

قال مالك: “إنما كانوا يجتمعون على الفقه”.

١٦٩- وقال أبو قلابة رحمه الله: “ما أمات العلم إلا القصاص، يجالس الرجلُ الرجلَ سنةً فلا يتعلق منه شيء، و يجلس إلى العالم فلا يقوم حتى يتعلق منه شيء”.

١٧٠- بقي هناك غضيضة عرضت للدعوة والدعاة نأتي إليها غدًا إن شاء الله، واغفروا إزعاجكم، غفر الله لنا ولوالدينا وأهلينا ولمشايخنا ومن أخذ عنا، ولمن قال آمين .

١٧١- من الأضابير التي شانت بعض طلاب العلم في العقود القريبة ولم يكن في المسلمين من قبلُ:

الشغف بالعلو ولو بلا عمدٍ يرونها، وله صور:

١٧٢- منها طلب العلو بالشهادات، فحصل تسابق على تحصيل الشهادات العليا، وهو شيء محمود، لكن بعد حيازة آلة العلم، وأما مجرد غلافٍ لكتاب فارغ فلا، ومن يتابع الدراسات العليا يجد فيها -دراسة وبحثًا- فواقرَ مُدنفات.

١٧٣- هؤلاء المتسابقون في عدد كثير ولو أغضبناهم لا يريدون العلم أصالة .. العلم له طرائق لا يتخرج العلماء إلا بها:

حفظ علم آلته
وضبط أصوله
وملازمة أهله مدة طويلة في بيوت الله.

١٧٤- وهذا التأصيل غير موجود في الدراسات العليا إلا أن يكون شيئًا يستفتح به .. ولهذا كثر الغُثاء وشهادات الزور إن أردنا الصدق في القول والنصيحة.

١٧٥- وأضر ما يكون هذا عندما تتغذى الجامعات بعناصر من هذه المخرجات الضاوية، يتولون التدريس فيها، ثم يسيرون العنق إلى بحوث الترقية مدفوعة الثمن في مجلات يزفها أهلها لا من بيوت خبرة وقوة، بل من بيوت وبرٍ أو مدرٍ هنا وهناك.

١٧٦- ومن صور طلب العلو امتهان الوعظ، والتصدر في كل مجلس بقول حتى يقال، أو لئلا يقال: حضر فلانٌ ولم يتكلم .. فتصير الدعوة كأنها إلى نفسه، والله تعالى يقول عن نبيه ﷺ: {قُلْ هَٰذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ} [يوسف: 108] .. فكان البون شاسعًا، وهذه الخبايا في النوايا لا يتوقى منها إلا بالمجاهدة.

١٧٧- ومنها مزاحمة الناس في مناسباتهم وأفراحهم وزواجاتهم بالوعظ .. وهذا الأمر لا ترتاح له النفوس، ولا تصغي له الآذان، وفيه امتهان للعلم، ولم يكن عليه العمل.

١٧٨- بعضهم يستدل بأن الشيخ عبدالعزيز -رحمه الله – إذا حضر زواجًا حدّث، وهذا مردود لأن الشيخ شامة حيث حضر يصغي له إنس وجن، ويستنصِت له الراعي والرعية، ثم هو يتحدث مختصرًا وفي الكليات كالتوحيد والإخلاص والصلاة ونحوه ذلك، ونحن ليس فينا شيء من ذلك.

١٧٩- هذه مقامات ليست لكل غاد ورائح، وليس كل أحد تستشرف له الأعناق ليتحدث، هذه مقامات أهل القبول في الأرض .. ألم ترو إلى ولي الله ونبيه داود عليه السلام كيف تصغي لذكره وتراتيله حتى الجبال الراسخات والطيور النافرات، رحم الله رجلًا عرف قدر نفسه.

١٨٠- بعض الإخوة وأنا منهم يحرجهم أهل الفرح بالطلب .. فإن كان ولا بد تطيب أنفسهم باختصار وكلام في الأصول.

١٨١- والدافع الذي يدفع إلى هذا هو ما يسمونه أسلمة المجتمع، وهذه من القضايا التي أحدثت شروخًا لم تكن في المسلمين من قبل، فقُسِّمت أفراح المؤمنين إلى فرح إسلامي، ولا أدري ما هو قسيمه .. وهذا ضمن سلسلة طويلة امتهنت أحيانًا في تقييد المصطلحات والأنشطة بالإسلامي.

١٨٢- ومن صور طلب العلو طلبه عن طريق تفسير الأحلام، يخبط خبط عشواء، ويتصرف تصرف الكهان، فيكذب مئة كذبة ويصدق في واحدة فيروج على العامة.

١٨٣- ومنها طلبه بالرقية، يمتهن الرقية طلبًا لأمرين:
الشهرة
الاستحلاب.
لم يكن في السلف من يُنصّب نفسه راقيًا، فضلا أن يكون بهذه الطريقة الرخيصة.

١٨٤- ولقد علمتُ نكرةً أرد أن يُعَرّفَ نفسه بالإضافة؛ فاشتغل بالوعظ فمُجَّ، فامتهن تفسير الأحلام، ثم امتطى الرقية، يلبس على العوام والفقراء.

١٨٥- وبقي يقلب وجهه في الأرض مدة، فلما جاءت البرمجة العصبية كان جُذَيْلها المُحَكَّك وعُذَيْقها المُرَجَّب! حتى ذهب بريقها.

١٨٦- ولمّا لم تشبع نفسه خبَّ في لجان الإصلاح .. يجوب معهم البلدان ولو ضيع أهله وتركهم يتكففون الشقاق:

وغير تقي ينصح الناس بالتقى … طبيب يداوي الناس وهو عليل

١٨٧- كل هذا ليشبع شرهه في النتوء.

١٨٨- ومنها طلبه بالتأليف والنشر، وهذا شيء مكّنت منه آلة الطباعة وبرامج الحواسيب والإنترنت التي تجمع لهم كلمات يجعلونها قراطيس يبدونها ويخفون وراءها جهلًا كثيرًا.

١٨٩- وشر من هذا: تآليف امتشنها صاحبها من كتب وبحوث غيره، تشبّع بها وهو في خصاصة .. يروجه بلحيته أو شهرته على حساب كتاب غيره:

إذا عرف الكذاب بالكذب لم يزل … لدى الناس كذابا وإن كان صادقاً

١٩٠- ومنها طلب العلو بالرئاسة، ولقد تبايع بعض طلاب العلم في بعض الجهات الشرعية كالكليات والمعاهد والوزارات .. تبايعوا أنفسهم واقتسموا الزغل لأجل العمادة أو رئاسة القسم.

حبُّ الرّئاسة أطغى مَن على الأرْضِ … حتى بَغَى بَعضُهُمْ منها على بَعْض

١٩١- وحب الصالحين للعلو داءٌ ظاهر في بعضهم، لا يخفيه هجر عقال، ولا تمتمة بالتسبيح، فهذه التي يسمونها الشهوة الخفية؛ ترضع لكن بئس فطامها .. قال سفيان -رحمه الله-: “ما رأيت زهدًا في شيء أقل منه في الرئاسة، ترى الرجل يزهد في المطعم والمشرب والمال والثياب فإن نوزع الرئاسة تحامى عليها وعادى”.

١٩٢- ومن صور العلو في بعض المتدينين العلو المناطقي أو باللون أو القبيلة .. بعض الجهات جعلوا أنفسهم عيبة الإسلام، وكأن مجرد انتسابه لها بيعة رضوان، أو كان فينا شعبٌ هو المختار…هذا أمر ننفيه بألسنتنا ويأباه واقعنا، ويشعر به المكلوم.

١٩٣- وقد ذكر شيخ الإسلام -رحمه الله- أن الناس أربعة:

٠ منهم من يريد العلو والفساد وهذا يكون في بعض الأمراء والأثرياء.

٠ ومنهم من يريد الفساد بلا العلو، وهذا يكثر في أهل الشهوات كبعض الليبراليين في زماننا.

٠ ومنهم من يريد العلو بلا فساد، وهذا الذي طغى فيه بعض المتدينين.

١٩٤- وأما أهل الإيمان والتقوى فعلى وصف خالقهم وهاديهم:

{تِلْكَ الدَّارُ الْآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لَا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الْأَرْضِ وَلَا فَسَادًا ۚ وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ} [القصص: 83].

١٩٥- منبر الجمعة صعده بعض طلاب العلم بآفات، منها:

٠ شحُّ النصوص في خطبته.
٠ وإشغالها بالقصص.
٠ أو متابعة الأحداث.
٠ أو كثرة اللحن الفاحش.
٠ ومنها التطويل على الناس، وقد قال ﷺ:
“إن طول صلاة الرجل، وقصر خطبته، مئنة من فقهه، فأطيلوا الصلاة، واقصروا الخطبة، وإن من البيان سحرًا”.

١٩٦- ومما شان به بعض الشباب التدينَ:
مزاحمة الناس على دنياهم، والتغرير بهم في مساهمات، وبيوعات مشبوهة في العقار وغيره.
{وَلا تَمُدَّنَّ عَينَيكَ إِلى ما مَتَّعنا بِهِ أَزواجًا مِنهُم زَهرَةَ الحَياةِ الدُّنيا لِنَفتِنَهُم فيهِ وَرِزقُ رَبِّكَ خَيرٌ وَأَبقى} [طه: 131].

١٩٧- وشر من هذا الاسترزاق بالدعوة، على صورة المساومة، ولقد كتبت من قبل كلمة عن نوح عليه السلام: ألف سنة إلا خمسين عامًا وهو يدعو قومه جهارًا وإسرارًا، ليلًا نهارًا لم يأخذ على دعوته درهما: {وَيَا قَوْمِ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مَالًا} [هود: 29]، واليوم مكاسب بعض الدعاة في برامجهم والقراء في محاريبهم على قدم وساق.

١٩٨- بقي آفتان:
٠ التحاسد داء دفين في قلوب بعض الطلاب، وإلم يتمن زوال نعمة أخيه كان يكرهها وينقبض قلبه لأجلها.
٠ الثانية: ضعف التعبد، فلا تكاد تجد فارقًا بين عبادة العامة وعبادته، فورده كوردهم، وصيامه كصيامهم، وتهجده كتهجدهم، بل ربما غلبته العجائز .. وهذا كله له أثر على قلبه ودعوته.

١٩٩- تمت والله يتولى بلاغها .. سامحونا .. وحافرة ما كُتب أركان النجاح الأربعة:

العلم، ثم العلم، ثم العلم
والحكمة
والإخلاص
وحسن الخلق.

٢٠٠- وعنوانها لجامعها:

نَزّاعَةُ الهوى
وصايا لطالب العلم.

  • 0
  • 37
  • 70٬977

قناة الشيخ باليوتيوب

تابع قناة الشيخ على اليوتيوب