التاريخ الميلادي: 2024-12-06
التاريخ الهجري: الجمعة، ٥ جمادى الآخرة ١٤٤٦ هـ

[wp_hijri_date]

هل تتغيّر الفتوى رعاية لحاجة الناس ومصالحهم

عدد الزوار: 644

بِسْم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله حق حمده والصلاة والسلام على أفضل أنبيائه وأشرف خلقه، وبعد:

يتلقف العامة بغفلة بعض ما يلقيه أهل الزيغ من طعون في العلماء بسبب تغير فتاويهم من التحريم إلى الحل أو العكس في مسائل قليلة.

وأود هنا أن أذكر بعض ما يحمل على تغير الفتوى وأن ذلك لا يوجب الطعن في الشريعة ولا في حملتها، لكن أشير قبل ذلك إلى أصلين:

أولهما: أن هذا التغير يحدث في فروع مسائل الاجتهاد التي لا نص صريح فيها، وأما محكمات الشريعة فإنها مع ثباتها محل إجماع قطعي بينهم، والحمد لله.

ثانيهما: أن هذا التغير في الفتوى إنما يكون مراعى ومعتبرًا إذا صدر من أهل النظر والاجتهاد، وأما تخبط المتعالمين وبعض الوعاظ الذين يأتون بالعجائب ثم يتراجعون عنها فهذا ليس مرده إلى تغير الاجتهاد وإنما سببه العجلة في التصدر، وعدم الورع عن القول على الله بغير علم، وهؤلاء جنايتهم على العلم عظيمة، وتشويههم لصورة الإسلام في أعين الناس لا في حقيقة الأمر مفسدة كبيرة، كذلك لا يلتف الأئمة إلى الأقوال الشاذة المخالفة. للإجماع أو المخالفة للأدلة خلافًا لا يعتبر ولو صدرت من مجتهد.

إذا تقرر هذا فإن اجتهاد المجتهد في الفروع قد يتغير من القول بالتحريم إلى الكراهة أو الحل والعكس، وقد يتغير في مسائل من القول بالوجوب إلى الاستحباب والعكس، واختلافهم هذا قد يفيد أمورًا أشير إلى اثنين منها، أحدهما للمجتهد والآخر للمتلقي:

فأما المجتهد: فإن تغير الفتوى يفيد العلم ببشريته، وأنه مهما بلغ علمه يبقى ناقصًا ما لم يعلمه الله الذي قال: {وَمَا أُوتِيتُم مِّنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا} [الإسراء: 85].

وأما المتلقي: فإن في هذا التغير شيء من الفتنة له ومدى استسلامه لما يغلب على ظنه أنه حكم الله وتجرده ودورانه مع أقوال أهل الذكر الذين أمر الله بسؤالهم في قوله: {فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِن كُنتُمْ لَا تَعْلَمُونَ} [النحل: 43].

والتحول الذي نراه في بعض أقوال أهل العلم ليس غريبًا على العلماء وإنما مكّنت آلة التواصل الاجتماعي عوام الناس من الاطلاع عليه؛ فعجبوا ثم طعنوا، ولو ازدادوا علمًا لعلموا أن هذا شيء معتاد في تاريخ التشريع الإسلامي؛ ليس في أقوال العلماء أنفسهم، بل حتى في بعض فتاوى رسول الله ﷺ، فقد كان يعرض لها التغير لِحِكَمٍ وأسبابٍ متعددة يمكن أن نأتي عليها، لكن من أهمها ما أشير إليه في ترجمة هذا المقال: (التغير رعاية لأحوال المكلفين ورفقًا بهم ولأجل تغير أعرافهم أو اشتداد حاجتهم)، وهذا لا يعيب الشريعة، بل يعد ميزة وخصيصة في سماحتها ويسرها، بخلاف ما كان من آصار وأغلال وتشديدات على بعض الأمم السابقة، ولذا كانت اثنتين من قواعده الخمس الكبرى تخدم هذا الغرض وهما:

المشقة تجلب التيسير

والعادة محكمة

فالفتوى تدور مع العادة فيما حكمتها الشريعة فيه، وتدور مع اليسر متى وجدت المشقة بضوابط يُعمِلها أهل الشأن، مما يؤدي إلى التغير في الفتوى.

ففي العهد النبوي الشريف كان يحدث هذا التغيير والتخفيف عبر ما يسمى بالنسخ من الحل إلى الحرمة أو العكس، والنسخ من ثقيل إلى أخف والعكس، وفي المراقي:

ويُنسخ الخِفُ بما له ثِقَل … وقد يجيء عاريا عن البدل

فمما نُسخ من الحل إلى الحرمة الخمر، فقد بقي مباحًا في العهد المكي وسنين في بداية العهد المدني، ثم نُسخ بعد أن تضلعت قلوب الصحابة -رضوان الله عليهم- بالإيمان، ومما نُسخ من المنع إلى الإباحة ادخار لحوم الأضاحي، نهى عن ذلك رسول الله ﷺ مدة؛ رعاية للفقراء الذين يقدمون المدينة ويحتاجون إلى أن يوسع عليهم، فلما وجدوا الغُنية وزال الموجب أذن ﷺ في الادخار وقال: “إنما كنت نهيتكم لأجل الدافة”.

ومن هذا الجنس ما جاء في قوله تعالى: {الْآنَ خَفَّفَ اللَّهُ عَنكُمْ وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفًا} [الأنفال: 66].

ومنه إذنه ﷺ في زيارة القبور لِما رأى من حاجة الناس الشرعية إليها، وإذنه بالشرب في بعض الآنية بعد أن حرمها لِما رأى من حاجة الناس الدنيوية لها، فقال ﷺ: “نهيتكم عن زيارة القبور، فزوروها، ونهيتكم عن لحوم الأضاحي فوق ثلاث، فأمسكوا ما بدا لكم، ونهيتكم عن النبيذ إلا في سقاء، فاشربوا في الأسقية كلها، ولا تشربوا مسكرًا”. رواه مسلم.

ولربما تلقى الصحابة لقوة إيمانهم بعض حديث رسول الله ﷺ العارض بالتسليم، وحين يرى ﷺ الحرج عليهم يبين لهم ويخفف عنهم، ومن ذلك ما جاء في حديث أنس -رضي الله عنه- في مسلم حيث قال: قدم نبي الله -صلى الله عليه وسلم- المدينة وهم يأبرون النخل يقولون يلقحون النخل. فقال: “ما تصنعون؟ “ قالوا: كنا نصنعه. قال: “لعلكم لو لم تفعلوا كان خيرًا” فتركوه. فنفضت أو فنقصت -أي ثمارهم- قال فذكروا ذلك له فقال: “إنما أنا بشر، إذا أمرتكم بشيء من دينكم فخذوا به، وإذا أمرتكم بشيء من رأي فإنما أنا بشر”.

وقد بوب له النووي في شرح مسلم بقوله: باب وجوب امتثال ما قاله شرعًا دون ما ذكره ﷺ من معايش الدنيا على سيبل الرأي.

ومنه ما في الصحيح من حديث سلمة بن الأكوع -رضي الله عنه- أن النبي -صلى الله عليه وسلم- رأى نيرانًا توقد يوم خيبر قال: “على ما توقدون هذه النيران؟ قالوا: على الحمر الأنسية. قال: اكسروها وأهريقوها. قالوا: ألا نهريقها ونغسلها؟ قال: اغسلوا”. فأعرض عن الكسر.

ومنه ما في الصحيحين من حديث ابن عباس لما حرم رسول الله -صلى الله عليه وسلم- شجر الحرم، فقال العباس: إلا الإذخر يا رسول الله فإنا نجعله لبيوتنا وقبورنا؟ فقال: “إلا الإذخر”.

وتارة لا يكون هناك استدراك من النبي ﷺ، بل الصحابة أنفسهم إذا رأوْا ظاهر الحديث يعارض أصل الإباحة أو يكون في التزام ظاهره حرج تأولوه وتركوا العمل بظاهره، ومن ذلك أنه ﷺ رأى بعض آلة الحرث في بعض بيوت الأنصار فقال: “لا يدخل هذا بيت قوم إلا أدخله الله الذل” رواه البخاري، وأقل ما يدل عليه هذا النص كراهية الزراعة واستحباب تركها، لكن شيئًا من ذلك لم يكن من أحد من الصحابة -رضي الله عنهم- ممن كان له حرث؛ ليس إعراضًا عن السنة ولكن لأن ظاهره غير مراد قطعًا لرسول الله ﷺ، ولذا استمروا في الاشتغال بالحرث والزراعة، وهو عمل المسلمين إلى اليوم، وتأولوا الحديث على من شغله ذلك عما يجب عليه من حق الله تعالى من الجهاد وغيره، أو أنه ﷺ يشير إلى ما كشفه الله له مما يقع في آخر الزمان من تسلط الولاة الظلمة على أهل الحرث باستعمالهم وأخذ فوق ما يجب عليهم من الإقطاعات والعشور فيقع عليهم الذل بسبب ذلك.

ومن صور التخفيف للعسر وعموم البلوى: الترخيص لأولياء اليتامى في مخالطتهم وأكل الفقير من أموالهم بالمعروف، قال ابن عباس: لما نزلت {وَلَا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} [الأنعام: 152]، و{إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَىٰ ظُلْمًا إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيرًا} [النساء: 10] انطلق من كان عنده يتيم فعزل طعامه من طعامه، وشرابه من شرابه، فجعل يفضل له الشيء من طعامه فيحبس له حتى يأكله أو يفسد، فاشتد ذلك عليهم فذكروا ذلك لرسول اللّه -صلى اللّه عليه وسلم- فأنزل اللّه: {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْيَتَامَىٰ قُلْ إِصْلَاحٌ لَّهُمْ خَيْرٌ وَإِن تُخَالِطُوهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ} [البقرة: 220] فخلطوا طعامهم بطعامهم وشرابهم بشرابهم”رواه أبو داود النسائي والحاكم.

ومنها تجويز الجمع بين الصلاتين لأجل المشقة والمرض، أو للاشتغال بأمر يشق تأجيله كطبيب يشتغل بعملية تطول، وكحال رجال الدفاع المدني ونحو ذلك، كل أولائك يرخص لهم في الجمع مع المشقة لحديث ابن عباس -رضي الله عنهما- قال: جمع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بين الظهر والعصر، والمغرب والعشاء، المدينة في غير خوف ولا مطر. (في حديث وكيع)، قال قلت لابن عباس: لم فعل ذلك؟ قال: كي لا يحرج أمته.

ومن ذلك تجويز الفقهاء بيع الدور مع جهل أساساتها دفعًا للحرج، والعفو عن الغرر اليسير مع دخوله في عموم النص لأن عدم ذلك يلحق المشقة ويعطل كثيرًا من مصالح الخلق ومعاملاتهم، فمتى تعسر على المكلفين القيام بأمر أو اجتناب منهي عنه رُخِصٓ لهم فيه دفعًا للحرج عنهم، وقد قال سبحانه: {لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا} [البقرة: 286]، ورفع الحرج أصل في هذه الشريعة، قال سبحانه: {وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ} [الحج: 78]، وقال: {يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ} [البقرة: 185]، لكن نؤكد أن هذا فيما يحتمله الخلاف والدليل.

ورعاية لهذا المعنى حفظت مدونات الإسلام مسائل وفتاوى للصحابة -رضي الله عنهم- رجعوا عنها، وهذه المسائل لا تكاد تحصى كثرة:

منها رجوعهم عن القول بعدم تضمين الصناع، ورجوع عمر -رضي الله عنه- عن القول بمنع المغالاة في الصداق، والقضاء المؤقت بعدم قطع السارق عام المجاعة لعروض شبهة الاضطرار في تلك السنة خاصة، وإمضاؤه الطلاق المجموع، وقال قولته المشهورة: “إن الناس قد استعجلوا في أمر قد كانت لهم فيه أناة. فلو أمضيناه عليهم! فأمضاه عليهم” رواه مسلم، فغيّر فتواه اعتبارًا بحال الناس.

ومن ذلك أيضًا رجوعه عن رأيه بعدم توريث المرأة من دية زوجها، ورجوعه ورجوع ابن مسعود عن القول بعدم جواز تيمم الجنب، ورجوع أبي موسى عن فتواه في رضاع الكبير، وغير ذلك كثير..

والحال كذلك في عرف أئمة الاجتهاد يكفي في الدلالة عليه ما نراه من روايات متعددة عن الإمام الواحد في المسألة الواحدة فيروى عنه القول بالتحريم ثم القول بالإباحة، كل هذا وقع لعامة الأئمة ومنهم الأربعة، وهذا شيء لا يخفى؛ لكن الذي قد يخفى أن من أسباب تغير فتاويهم هو عموم البلوى واشتداد حاجة الناس أو تغير العرف والحال.

فهذا الشافعي -رحمه الله- لما جاء مصر وتغيرت بيئته تغير كثير من أقواله، ومن أقواله المشهورة الذي صار قاعدة فقهية: “إذا ضاق الأمر اتسع”، وقد أفتى بها في مواضع منها:

-إذا فقدت المرأة وليها في السفر فولت أمرها رجلًا قال: يجوز؛ إذا ضاق الأمر اتسع.

-ومنها العفو عن وقوع الذباب على الثوب ولو طار من على غائط قال: إذا ضاق الأمر اتسع.

المقصود أن الشريعة لم تقف يومًا عاجزة عن الوفاء بحق المكلفين في عباداتهم أو معاملاتهم وأقضيتهم، والعلماء متى رأوْا حاجة الناس متوقفة على أمر فيه خلاف وشبهة رخصوا فيه، لذا رخصوا في عقد السُفتجة مع أن فيها شبهة القرض الذي يجر النفع لصاحبه، لكن جرى عمل الناس فصار بعضهم إلى الرخصة، قال شيخ الإسلام بعد أن صحح الجواز على خلاف المشهور من المذهب وخلاف قول أكثر الفقهاء: والشارع لا ينهى عما ينفع الناس ويصلحهم ويحتاجون إليه؛ وإنما ينهى عما يضرهم ويفسدهم وقد أغناهم الله عنه.ا. ه

ومن هذا الجنس قبولهم شهادة الفاسق وولايته مراعاة لحال الناس، ولأن إعمال الشروط التي وضعها عامة الفقهاء في الشاهد والولي والمجتهد والإمامة قد يعطل مصالحهم:

.يقول ابن القيم -رحمه الله-: “وعلى هذا فإذا كان الناس فساقاً كلهم، إلا القليل النادر، قبلت شهادة بعضهم على بعض، ويحكم بشهادة الأمثل من الفساق فالأمثل، هذا هو الصواب الذي عليه العمل، وإن أنكره كثير من الفقهاء بألسنتهم، كما أن العمل على صحة ولاية الفاسق ونفوذ أحكامه، وإن أنكروه بألسنتهم، وكذلك العمل على صحة كون الفاسق ولياً في النكاح، ووصياً في المال”.

ومن ذلك ما جرت به الفتوى وعليه العمل من الترخيص للصبيان في مَس المصحف بلا طهارة ليبقوا على صلة بكتاب الله، ولا يمكن حملهم على غير ذلك.

ومن ذلك تجويز متأخري الشافعية لبيع المعاطاة فإن أصل المذهب أنه لا يصح البيع بها ولو اعتيدت، لكن اختار النووي وغيره الصحة مراعاة للدليل ولعمل الناس.

ومن ذلك أيضًا تسامحهم فيما حُرم سدًا للذريعة إذا دعت إليه الحاجة فإنه يباح للمصلحة الراجحة، وذكرها ابن القيم في الزاد بقوله: “ما حرم تحريم الوسائل فإنه يباح للحاجة والمصلحة الراجحة” وقال أيضًا: “وقاعدة باب سد الذرائع إذا عارضه مصلحة راجحة قدمت عليه”.

ومن هنا:

جاز النظر إلى المخطوبة، وجوزوا نظر الطبيب إلى الأجنبية بقدر الحاجة، وجوزوا نظر القاضي والشاهد إلى الأجنبية لأن الحقوق لا تصل ويتحقق من أهلها إلا بمثل هذا، وجوزوا سفر المرأة بلا محرم للحاجة، واستدل شيخ الإسلام على ذلك بسفر أم كلثوم بنت عقبة وفيها نزلت: {إِذَا جَاءَكُمُ الْمُؤْمِنَاتُ مُهَاجِرَاتٍ} [الممتحنة: 10]، وكذا سفر عائشة مع صفوان، وحديثهما في الصحيحين، وفُرع عليه الترخيص لامرأة ليس لها محرم أن تسافر في الطائرة بلا محرم إذا وقعت الحاجة، كامرأة مات زوجها عنها وهما في السفر.

وفي زماننا اتفق أئمة العصر ابن باز وابن عثيمين والألباني -عليهم رحمة الله- على تجويز الصور لحاجة الناس كصور البطاقة والجواز، وبقوا على أصل التحريم فيما عداه، ثم لما ابتلي الناس بكثرة الصور الفوتوغرافية مال الأكثر بعدهم إلى الإباحة لعموم البلوى مع قوة الخلاف.

ومن ذلك الرخصة للحائض أن تتحفظ وتطوف طواف الإفاضة خشية فوات رفقتها أو حجزها على الطيران.

ومن أسباب تغير الفتوى تغير الأزمنة والأمكنة والأحوال والعوائد، في مسائل مبناها على العادة والعرف ومردها إلى النظر والاجتهاد، ومن ذلك نهيه ﷺ عن قطع الأيدي في الغزو رواه أبو دواد.

يقول ابن القيم -رحمه الله- في إعلام الموقعين: “هذا فصل عظيم النفع جدًا وقع بسبب الجهل به غلط عظيم على الشريعة أوجب من الحرج والمشقة وتكليف ما لا سبيل إليه ما يعلم أن الشريعة الباهرة التي في أعلى رتب المصالح لا تأتي به؛ فإن الشريعة مبناها وأساسها على الحكم ومصالح العباد في المعاش والمعاد، وهي عدل كلها، ورحمة كلها، ومصالح كلها، وحكمة كلها؛ فكل مسألة خرجت عن العدل إلى الجور، وعن الرحمة إلى ضدها، وعن المصلحة إلى المفسدة، وعن الحكمة إلى العبث، فليست من الشريعة وإن أدخلت فيها بالتأويل”.

وقال أيضًا: الأحكام نوعان:

نوع لا يتغير عن حالة واحدة، وهو عليها، لا بحسب الأزمنة ولا الأمكنة، ولا اجتهاد الأئمة؛ كوجوب الواجبات، وتحريم المحرمات، والحدود المقدرة بالشرع على الجرائم، ونحو ذلك. فهذا لا يتطرق إليه تغيير ولا اجتهاد يخالف ما وضع عليه.

والنوع الثاني: ما يتغير بحسب اقتضاء المصلحة له: زمانًا ومكانًا وحالاً؛ كمقادير التعزيرات وأجناسها وصفاتها، فإن الشارع ينوع فيها بحسب المصلحة.

وأفاض في ذكر الأمثلة كترك الإنكار على الولاة الظلمة إذا كان يسبب مفسدة أكبر، وذكر استئذان الصحابة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أن يقاتلوا الأمراء الذين يؤخرون الصلاة عن وقتها فقال: “لا، ما أقاموا فيكم الصلاة”، وقال: “من رأى من أميره ما يكره فليصبر ولا ينزعن يدًا من طاعة”. رواه مسلم.

والأمثلة في هذا كثيرة لا يحتملها المقال، وإنما أردت أن يتذكر الناسي، ويتعلم الجاهل، ويكف المغرض عن طعنه في علماء الأمة، وأن التغير الذي يطرأ على أقوالهم ليس قادحًا فيهم، بل هو دليل تجردهم، وليس قادحًا في الشريعة، بل هو جار على الأصل فيها من صلاحها وإصلاحها لكل زمان ومكان، على أني أؤكد أن هذا إنما يكون من أهل النظر والاجتهاد في مسائل مخصوصة، وليس حمى مباحًا لكل صاحب هوى، كما قال سفيان الثوري -رحمه الله-: “إنما العلم عندنا الرخصة من ثقة، والله الهادي إلى سواء الصراط، وهو من وراء القصد والمراد”.

صالح بن علي الشمراني

١٤٣٩/١/١٢ ه.

أم القرى

  • 1
  • 39
  • 81٬488

قناة الشيخ باليوتيوب

تابع قناة الشيخ على اليوتيوب