التاريخ الميلادي: 2024-12-27
التاريخ الهجري: الخميس، ٢٥ جمادى الآخرة ١٤٤٦ هـ

[wp_hijri_date]

قراءة الهذرمة

عدد الزوار: 306

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله حمدا يملأ أركان عرشه، وحمدا أستزيد به من واسع فضله، وأصلي وأسلم على أفضل أنبيائه وأشرف خلقه وبعد

فإن بعض إخواني من الوعاظ وطلاب العلم يتداولون في بدايات رمضان عن الشافعي –رحمه الله أنه كان يختم القرآن فيه ستين ختمة، ذكرها الخطيب في تاريخه، وكذا المزي في تهذيب الكمال والذهبي وغيرهم،

وهي مشهورة في كتب التراجم عنه، ويوردون أيضا ما رواه البيهقي وغيره عن عثمان-رضي الله عنه- أنه ختمه

في ركعة، وكذا روي عن تميم الداري رضي الله عنه، ويُنقل عن سعيد بن جبير –رحمه الله.

ونقل ذلك النووي في التبيان عن جماعة من المتقدمين، بل ذكر في كتاب الأذكار وفي شرح مسلم عن بعض العبّاد أن له أربع ختمات بالليل ومثلها بالنهار.

وحيث إن تقريع الناس بذلك وحملهم عليه فيه مشقة بالغة قد تأتي على بعضهم بالإحباط، فضلا عن أن بعض ما ذكرلا يمكن أن يسعه الوقت والجهد، وما أمكن منه لا يمكن أن يكون إلا بعجلة وهذرمة مباينة للصواب كما سيأتي

ولذا كانت هذه الورقة:

فإن من المقرر أن هذا الأمر عبادة ومن شرط كل عبادة مع الإخلاص أن تكون صوابا على هدي رسول الله صلى الله

عليه وسلم، ولذا وجب ردها إلى الكتاب والسنة كما أمر ربنا سبحانه بقوله: ﴿فإن تنازعتم في شيء فردوه

إلى الله والرسول إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر ذلك خير وأحسن تأويلا﴾.

وعند ردها إلى الأدلة والنظر تبين فيما يظهر لي -والله أعلم- أنها على خلاف السنة والدليل من عشرين وجها:

1- أولا لقوله تعالى:

﴿وقرآنا فرقناه لتقرأه على الناس على مكث ونزلناه تنزيلا﴾ [الإسراء: ١٠٦]

على مكث أي على ترسلٍ وتمهلٍ وترتيل، فهو أدعى للانتفاع والتدبر واستدعاء العمل بالمتلو، ومن أراد أن

يختم بهذا العدد لابد أن يهذَّه هذَّاً، وإلا لم يتمكن، فإن الوقت لا يسعف لمثل ذلك.

2- ولقوله تعالى:

﴿وقال الذين كفروا لولا نزّل عليه القرآن جملة واحدة كذلك لنثبت به فؤادك ورتلناه ترتيلا﴾ [الفرقان: ٣٢

وفرق بين الترتيل والهذّ، وإن كانت الآية في أصل التنزيل إلا إنه كما كان كذلك فيه فكذلك هو في التلاوة والتدبر،

يدل عليه الأمر في قوله سبحانه:

3- : ﴿ورتل القرآن ترتيلا﴾ [المزمل: ٤] أي لا تعجل بقراءة القرآن، بل اقرأه في مَهَلٍ وبيانٍ مع تدبر المعاني،

وقال الضحاك : اقرأه حرفا حرفا.

قال القرطبي: والترتيل: التنضيد والتنسيق وحسن النظام.

4- ولأن الله تعالى أرشدنا إلى إحسان العمل كما في قوله سبحانه:

﴿الَّذي خَلَقَ المَوتَ وَالحَياةَ لِيَبلُوَكُم أَيُّكُم أَحسَنُ عَمَلًا وَهُوَ العَزيزُ الغَفورُ﴾ [الملك: ٢]، وقال تعالى:

﴿إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات إنا لا نضيع أجر من أحسن عملا﴾ [الكهف: ٣٠]

فالعبرة مع الإكثار من العمل الصالح إنما هي بحُسنه ، ولا شك أن من رتل على هدي رسول الله صلى الله عليه

وسلم كان أحسن عملا.

قال العلماء: أحسن العمل: أخلصه وأصوبه.

وأصوبه ما كان على هديه صلى الله عليه وسلم وقد كان يمد قراءته مدا ويرجع فيها، فإن:

5- البخاري روى عن قتادة قال : ” سألت أنس بن مالك عن قراءة النبي صلى الله عليه وسلم فقال:

كان يمد مدا”.

6- وأصرح منه ما رواه البخاري أيضا عن عبد الله بن مغفل قال: “رأيت النبي صلى الله عليه وسلم يقرأ

وهو على ناقته أو جمله وهي تسير به وهو يقرأ سورة الفتح أو من سورة الفتح قراءة لينة يقرأ

وهو يرجع”، فوصف قراءته بوصفين ينافيان قراءة أهل السرد والهذرمة وهما:

وصفها بكونها لينة يترسل ويشبع الحروف

ووصف قراءته أيضا بالترجيع وهو تحسين الصوت بالتلاوة.

7- وهي خلاف السنة أيضا لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال كما في حديث ابن الشخير:

“لا يفقهه من يقرؤه في أقل من ثلاث ” رواه أبو داد وغيره، وهو عمدة الظاهرية في قولهم بتحريم قراءته

في أقل من ثلاث كما سيأتي.

وأما قول بعضهم إن المنفي في الحديث هو الفقه والفهم وليس ثواب القراءة، وعليه فلا يلزم من عدم فهمه في أقل من ثلاث تحريم قراءته في أقل منه فغير وجيه لأمرين:

أولهما: أنه يرد على من قال بالتحريم.. ولمن قال بعدم التحريم أن يقول: لا يلزم منه حصول الثواب

بمثل هذه القراءة؛ لأن مخالفة السنة قد تحول دون ذلك.

ثانيهما: أن المقصود الأعظم من التلاوة حصول الفهم والتدبر والتأثر ليس للقلب فحسب بل حتى للجوارح

والجلود، قال سبحانه: (الله نزل أحسن الحديث كتابا متشابها مثاني تقشعر منه جلود الذين يخشون

ربهم ثم تلين جلودهم وقلوبهم إلى ذكر الله) ، ومن صفات الذين أنعم الله عليهم:(إذا تتلى عليهم آيات الرحمن خروا سجدا وبكيا) ، وقال تعالى: ﴿كتاب أنزلناه إليك مبارك ليدبروا آياتهوليذكر أولو الألباب﴾. وأولو الألباب هنا هم الذين يتحقق لهم الفقه الذي أشار إليه النبي صلى الله عليه

وسلم في الحديث.

8- ومما يدل أيضا على أن قراءة القرآن على هذا الوجه مخالف للسنة ما رواه الشيخان عن عبدالله بن عمرو

أن النبي صلى الله عليه وسلم قال له:

“اقرأ القرآن في كل شهر ، قال : قلت : إني أجد قوة . قال : فاقرأه في عشرين ليلة ، قال : قلت : إني أجد قوة . قال : فاقرأه في سبع ولا تزد على ذلك”.

وقد ترجم له البخاري في كتاب فضائل القرآن بقوله: بابٌ في كم يقرأ القرآن، وقول الله تعالى:﴿فاقرءوا ما تيسر منه﴾ [المزمل: ٢٠]..

قال النووي: والاختيار أن ذلك يختلف باختلاف الأشخاص … من غير خروج إلى الملل ولا يقرؤه هذرمة.

9- ومن ذلك أيضا ما في الصحيحين أيضا عن أبي وائل قال:

“جاء رجل من بني بجيلة ، يقال له نهيك بن سنان ، إلى عبد الله . فقال : إني أقرأ المفصل في ركعة . فقال عبد الله : هذّاًكهذِّ الشعر ؟ لقد علمت النظائر التي كان رسول الله صلى الله عليه

وسلم يقرأ بهن . سورتين في ركعة”.

قال النووي: في معنى الهذّ : هو شدة الإسراع والإفراط في العجلة، ففيه النهي عن الهذِّ والحث على الترتيل

والتدبر وبه قال جمهور العلماء. قال القاضي: وأباحت طائفة قليلة الهذَّ.

وقال الحافظ في فوائده: فيه كراهة الإفراط في سرعة التلاوة؛ لأنه ينافي المطلوب من التدبر والتفكر

في معاني القرآن.

فإن قيل: إن الحافظ بن حجر قال ثمََّ: ولا خلاف في جواز السرد دون تدبر لكن القراءة بالتدبر أعظم أجرا.

فالجواب: أن المقصود بالسرد الحدر الذي لا يصل إلى حد الهذرمة التي أشار إليها النووي، وهو السرد

الذي يفضي به إلى أن يختم في نحو ثلاث، وأما ما زاد على ذلك فمنهم من حرمه كما سيأتي.

10- ومما يدل على عدم مشروعية ذلك أيضا ما في البخاري من حديث أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله

عليه وسلم: ” ليس منا من لم يتغنَّ بالقرآن” وزاد غيره: يجهر به.

والتغني: ترتيله وتحسين الصوت به، ولا يتأتى هذا مع السرد والهذرمة، وقوله : “ليس منا” أي:

ليس على هدينا وطريقتنا.

11- ومما يدل أيضا على مخالفة ذلك للسنة أنه عجلة في عبادةٍ الحق فيها الطمأنينة والخشوع،

كما قال صلى الله عليه وسلم للمسيء في صلاته:” ارجع فصل فإنك لم تصل” متفق عليه،

والاستدلال به من وجهين:

الأول: أن هذا المسيء قطعا قد عجل فيما قرأ.

الثاني: أنه فوت المقصود الأعظم من الصلاة وهو روحها ولبها ألا وهو الخشوع وحضور القلب، فنفى عنه

النبي صلى الله عليه وسلم أن يكون مصليا والحال كذلك، فكذلك هنا لا يمكن أن يكون من يهذُّ القرآن قارئا

للقرآن على الوجه المرضي.

12- ويمكن أن يُستدل على المنع بقوله صلى الله عليه وسلم: ” من عمل عملا ليس عليه أمرنا فهو رد”

رواه مسلم، وأمره صلى الله عليه وسلم ظاهر هنا، فقد أمر ابن عمرو أن يختمه كل سبع ولا يزيد على ذلك

أي في الإنقاص عن السبع، وأخبر أن من ختمه في أقل من ثلاث لا يفقهه كما تقدم.

13- ثم إن قلة العبادة مع موافقتها للسنة أولى وأوجب من كثرتها مع المخالفة، يدل عليه حديث أنس في خبر

الثلاثة الذين تقالوا عبادة النبي صلى الله عليه وسلم فقال: ” لكني أصوم وأفطر، وأصلي وأرقد، وأتزوج

النساء فمن رغب عن سنتي فليس مني” متفق عليه.

فإن قيل: إن النبي صلى الله عليه وسلم كان كما في الصحيح: “إذا دخلت العشر أحيا ليلة وشد مئزره”

فيقال هذا صحيح، لكنه يحيه بقراءةٍ وصلاةٍ وذكر، ولم يرو عنه لا من طريق صحيح ولا غيره أنه ختم القرآن

في ليلة أو حتى ثلاث.

14- بل إن الثابت في الصحيحين وغيرهما عن ابن عباس عنه صلى الله عليه وسلم أن جبريل كان يلقاه

في رمضان فيدارسه القرآن، والمدارسة مشاكلة ومفاعلة وفيها قدر زائد على مجرد التلاوة، لا يمكن

أن تكون مع الهذرمة.

15- وفي البخاري عن أبي هريرة رضي الله عنه: أن جبريل كان يعارضه القرآن مرة مرة كل عام ثم عرض

عليه مرتين فقط في العام الذي قبض فيه.

وهذا العرض يكون في رمضان كل عام كما يدل عليه حديث ابن عباس المتقدم.

16- وعند ابن حبان وغيره عن ابن مسعود أن أبا بكر وعمر رضوان الله عليهما بشراه أن رسول الله صلى الله

عليه وسلم قال: “من سره أن يقرا القرآن غضا كما أنزل فليقرأه على قراءة ابن أم عبد”. والاستدلال به على أن القراءة العجلى خلاف السنة من وجهين:

الأول: وصفه بالغض، وفي رواية:” غضا طريا”.

والثاني أنه قال: كما أنزل ، وهذا يشمل الحرف وغيره، فمن المعلوم أنه أنزل مرتلا منجما شيئا فشيئا كما قال تعالى: ﴿ولا تعجل بالقرآن من قبل أن يقضى إليك وحيه﴾، وقال تعالى: ﴿لا تحرك به لسانك لتعجل به﴾.

17- وهذه القراءة المزينة هي التي كان يقرأ بها رسول اله صلى الله عليه وسلم كما تقدم، وهي التي عرف الصحابة أنها هي التي يحب أيضا سماعها كما في حديث أبي موسى حينما استمع له صلى الله عليه وسلم ثم قال له:”لو رأيتني وأنا استمع لقراءتك البارحة لقد أوتيت مزمارا من مزامير آل داود” متفق عليه وهذا لفظ مسلم.. وفي غير الصحيحين قالأبو موسى:” لو كنت أعلم أنك تسمعه لحبرته لك تحبيرا”.

18- ولأن التلاوة إذا لم تحرك القلب ولم يصحبها تدبر وتحكيم وعمل من صفات الخوارج كما دل عليه حديث أبي سعيد وغيره في الصحيحين وغيرهما أن النبي صلى الله عليه وسلم وصفهم بقوله: ” يقرؤون القرآن لا يجاوز حلوقهم، أو حناجرهم”..ولا يلزم من هذا أن من هذَّ القرآن كان خارجيا لكننا مأمورون باجتناب طرائقهم، ومنها الاكتفاء بقراءة القرآن دون تدبر وتحكيم وعمل، وهذا ما فهمه ابن مسعود رضي الله عنه فقد شبّه حال أولئك بحال الخوارج، فقد جاء في رواية لحديث أبي وائل السابق أنه حينما قال له الرجل إنه يقرأ المفصل في ركعة فقال: “هذّا كهذِّ الشعر، إن أقواما يقرأون القرآن لا يجاوز حناجرهم”.

قال شيخ الإسلام: هؤلاء غلوا في العبادة بلا فقه فآل الأمر بهم إلى البدعة.

وقال أبي بن كعب وغيره: ” اقتصاد في سنة، خير من اجتهاد في بدعة “.

وقال شيخ الإسلام أيضا:” فإن قراءة القرآن على الوجه المأمور به تورث القلب الإيمان العظيم، وتزيده يقينا وطمأنينة وشفاء، وقال تعالى: (وننزل من القرآن ما هو شفاء ورحمة للمؤمنين)”.

19-ومما يقوي أن قراءة السرد والعجلة ليست هي المشروعة أن عمل الصحابة على خلافها، فالمشهور والثابت بالأسانيد الصحيحة عنهم أنهم كانوا يقرأونه في كل سبع،وذكر النووي في الأذكار أن أكثر السلف على هذا فيقرأون:

في اليوم الأول ثلاثاً

ثم خمسا

ثم سبعا

ثم تسع سُوَر

ثم إحدى عشرة

ثم ثلاث عشرة

ثم المفصل:

فالثلاث: البقرة وآل عمران والنساء،

والخمس: المائدة والأنعام والأعراف والأنفال والتوبة، وهكذا… ثم المفصل من ق.

وبعضهم يختصرها في قولهم:

“فمي بشوق”

الفاء الفاتحة

والميم المائدة

والياء يونس

والباء الإسراء(بني إسرائيل)

والشين الشعراء

والواو الصافات

والقاف ق

وقد نظمها بعضهم في بيت فقال:

بكر عقود يونس سبحانا … وظلة يقطين قاف بانا

فالبكر: الفاتحة

والعقود: المائدة

ثم يونس

وسبحان: الإسراء

وظلة: الشعراء لقوله فيها : ﴿فأخذهم عذاب يوم الظلة﴾

ويقطين: الصافات لقوله تعالى فيها : ﴿وأنبتنا عليه شجرة من يقطين﴾

ثم قاف

20- ولأن قراءة الهذرمة أقرب إلى العبث منه إلى العبادة:

قال ابن حزم في الرسالة الباهرة :

“وحكوا أيضا عن ابن القاسم أنه كان يختم القرآن مئتي مرة في الشهر.. وهذه طامة من فضائح الكذب المشبع، ومثل هذا أميل إلى الاستهزاء بالقرآن، هذا لو أمكن ، ثم هو بعدُ معصية لله تعالى ؛ لأنه قد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم أن لا يقرأ القرآن في أقل من ثلاث ليال ، ولم يختلف عن هذا أحد من الصحابة رضي الله عنهم في دون ذلك إلا في مرة واحدة في الليلة فقط ، ثم بعد هذا كله فهو محال وكذب.انتهى

ونقل الذهبي في ترجمة وكيع ما روي عن يحي بن أكثم يقول: صحبت وكيعا في الحضر والسفر وكان يصوم الدهر ويختم القرآن كل ليلة..

ثم قال-أعني الذهبي-:

هذه عبادة يخضع لها ولكنها من مثل إمام من الأئمة الأثرية مفضولة ؛ فقد صح نهيه صلى الله عليه وسلم عن صوم الدهر ؛ وصح أنه نهى أن يقرأ القرآن في أقل من ثلاث، والدين يسر، ومتابعة السنة أولى، فرضي الله عن وكيع وأين مثل وكيع ؟.

21- وأما تحديد مدة ختم القرآن فلها أربعة أحوال:

الأول: أن يختم في أكثر من سبع ليال، وهذا لا خلاف في جوازه ومشروعيته، وتزيد هذه المدة بزيادة الغفلة.

الثاني: أن يختمه في كل سبع ليال، وهذا هو أفضلها وعليه عمل الصحابة وأكثر الأئمة كما تقدم؛ لظاهر حديث عبدالله بن عمرو وقوله صلى الله عليه وسلم له: “فاقرأه في سبع ولا تزد على ذلك”.

الثالث: أن يختمه في ثلاث وهذا مشروع أيضا ولا خلاف فيه.

الرابع: أن يختمه في أقل من ثلاث:

فالجمهور على الجواز مع الكراهة

وقال الظاهرية: يحرم، وتقدم النقل عن ابن حزم أنه معصية، وقال الحافظ: “وأغرب بعض الظاهرية فقال: يحرم أن يقرأ القرآن في أقل من ثلاث”.

فإن قيل: كيف يمكن أن يقال بكراهية قراءة القرآن على هذا الوجه وهي عبادة؟ فالجواب من وجهين:

الأول: أن يقال هي عبادة لكنها ليست على أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد قال كما في الصحيح: ” من عمل عملا ليس عليه أمرنا فهو رد”، وقد صح عنه صلى الله عليه وسلم النهي عن قراءته في أقل من سبع كما في حديث عبدالله بن عمرو ثم رخص إلى ثلاث على ظاهر حديث ابن الشخير وما كان على خلاف ذلك فهو رد.

الثاني: أن يقال الصلاة أعظم من تلاوة القرآن ولا يجوز لأحد أن ينقرها نقرا ويحتج على الجواز بأنها عبادة، بل سيحتج بقوله صلى الله عليه وسلم: “صلوا كما رأيتموني أصلي” فكذلك يقال هنا: نقرأ كما قرأ وأمر لا نتجاوز ذلك، والله أعلم.

فإن قيل: قد حث النبي صلى الله عليه وسلم على كثرة قراءة القرآن، فقال كما في حديث ابن مسعود عند الترمذي:” من قرأ حرفا من كتاب الله فله به حسنة والحسنة بعشر أمثالها لا أقول آلم حرف ولكن ألف حرف ولام حرف وميم حرف”.

فيقال: نعم لكن المقصود أن يقرأ على وفق الوارد، كما إنه صلى الله عليه وسلم قد حث على كثرة الصلاة وقال:” خير أعمالكم الصلاة”، وحث على الإكثار من الذكر والعمرة والصيام وغير ذلك من الأعمال الصالحة ولا يمكن الاستكثار منها إلا أن يؤتى بها وفق هديه صلى الله عليه وسلم وإلا لم تكن مشروعة فكذلك الشأن هنا.

بقي الجواب عما نقل عن السلف فالجواب عنه من وجوه:

الأول: أن في ثبوت ذلك عنهم بحث ونظر، وأظن أننا لو طبقنا القواعد الحديثية على تلك الآثار ما صحت، أو تصح في حال عارضة لم تكن لهم هديا عاما كالمروي عن عثمان رضي الله عنه، فقد روي عنه أنه كان يختم كل أسبوع كقول العامة، روي عنه وعن ابن مسعود بأسانيد صحيحة كما قال الحافظ ابن حجر.

الثاني: ويحتمل أنهم فعلوا ذلك عرضا، ولم يكن هديا ثابتا لهم، وقد روي كما في أحكام القرآن له أن الشافعي فعل ذلك حينما سئل عن حجية الإجماع فختم في كل يوم وليلة ثلاث ختمات حتى وقف على قوله تعالى :(ومن يشاقق الرسول من بعد ما تبين له الهدى ويتبع غير سبيل المؤمنين نوله ما تولى ونصله جهنم وساءت مصيرا).

الثالث: أن أقوالهم وأفعالهم يحتج لها لا بها، فليس هناك أحد قوله وفعله حجة على الإطلاق إلا رسول الله صلى الله عليه وسلم.

الرابع: أن المقرر في الأصول أن السنة القولية مقدمة على الفعلية عند تعذر الجمع فكيف لا يقدم قوله صلى الله عليه وسلم على فعل غيره.

الخامس: يعتذر لهم أن النهي لم يبلغهم، أو بلغهم وتأولوه على غير وجهه الراجح، والله تعالى أعلم.

  • 0
  • 77
  • 84٬948

قناة الشيخ باليوتيوب

تابع قناة الشيخ على اليوتيوب